رئيس التحرير.. أي إغراء في اللقب؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أي بريق في لقب «رئيس التحرير»؟

من بعيد يبدو للبعض مكانا عليا. حكى لي قبل أكثر من أربعين عاما جار عجوز، عن الخواجة «عَدَاه» صاحب عزبة في زمام قريتنا تحمل اسمه إلى اليوم، «عزبة عداه».

كان جاري فقيرا مثل أهل القرية، ويظن الأثرياء لا يأكلون إلا اللحم والحلوى، إلى أن رأى الخواجة يتذوق بشائر البطيخ، (يسمونه في الجزائر «دِلّاع»). انتقوا أكبر بطيخة، وقدموا للخواجة شريحة فتذوقها بطرف لسانه، لأنه مصاب بالسكر. لم أبال آنذاك بحكاية الرجل، لعله أراد أن يعزيني عن مشقة الشغل في الغيط، وبعد أربعين عاما كنت مشغولا بالبحث التاريخي قبل كتابة روايتي «وشم وحيد»، وعثرت على اسم المليونير اليهودي «يوسف عاداه»، وتقصيت بعض تاريخه، ولم تبلغ أحداث الرواية تلك الفترة.

في الجامعة لم أجد في لقبي «رئيس التحرير» و«عميد الكلية» شيئا عظيما. كنت صديقا للناقد الدكتور سيد حامد النساج، عميد كلية التربية، وأزوره في بيته ومكتبه، وصادقت نقادا بارزين كانوا بالمصادفة رؤساء للتحرير.. رجاء النقاش في دار الهلال، غالي شكري في «القاهرة»، محمود أمين العالم في «قضايا فكرية»، فريدة النقاش التي نشرت لي قصة في «أدب ونقد» في فبراير 1988، وعبد القادر القط الذي نشر لي قصة في «إبداع»، في أبريل 1988، أول عمل أنال عنه مكافأة، 26 جنيها، مبلغ كبير، إذ كانت الإقامة في المدينة الجامعية بخمسة جنيهات شهريا.

«الكتابة» غواية أكثر بريقا وغنى وإغناء وإشباعا للنفس، وانغماسا في الحياة، واقترابا من بشر محبين للحياة لا من كارهي البشر. هنا أتذكر علاء الديب، ومحمد روميش «الأب المقدس روميش». وحدث أنني كنت عضوا في هيئة تحرير مجلة، ثم عرضوا رئاسة التحرير بشروط مهنية لم تتحق، فانسحبت في الشهر الثالث، صيف 2002.

وفي صيف 2011، حين كانت آمال التغيير الثوري تتجاوز السماء، عقب 25 يناير مباشرة، عرض علي رئاسة تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» فرشحت ثلاثة أصدقاء. ثم نقل لي صديق رغبة وزير الثقافة أن أتولى رئاسة تحرير صحيفة «القاهرة» الأسبوعية، في ذلك اليوم 26 يناير 2012، نشر الصديق محمود قرني بيانا في «القدس العربي» يطالب بإقالة الوزير، صديقي القديم، وقلت لحامل العرض إنني رابع الموقعين على البيان، وشريك في الصياغة، فهل يمكن أن أفعل ذلك حين أكون رئيس تحرير «القاهرة» لسان حال الوزارة؟ على الأقل سأكون شيطانا أخرس.

وفي أكتوبر 2013 خالفت نصيحة نيتشه: «إذا أردت أن تحصل من الحياة على خير ما فيها فعش في خطر»، حين تلقيت اتصالا من قطر، كان العرض مغريا، مجلة «الدوحة»، وأنقذتني نفسي اللوامة بالرفض المباشر. كان علي أن أختار فاخترت، وقلت إن كتابي «سنة أولى إخوان» سيصدر قريبا، وفي الدوحة يجب أن أتجاهله، وربما تفرض شروط إذعان أن أتبرأ منه، وفي أفضل الأحوال لن أرفع صوتي بالدفاع عن ثورة بلادي وجيشها، وسط مدفعية إعلامية تجعل «العاقل» شيطانا أخرس.

لا أريد الاستطراد في سرد المزيد، ويوجد بالفعل مزيد.

وأمام رئاسة تحرير مجلة «الهلال»، وجدت نفسي ضعيفا، بعد أن حثني على خوض التجربة صديق «ملتزم» بالمعنى الجرامشي. وفي الطريق إلى «الهلال» تفاصيل يمكن رواية طرف منها؛ فالذي صادق في شبابه المبكر قامات أكبر من أي منصب يرفض طرق الأبواب، ولا يقربها، وكان العز بن عبد السلام يقول لمريده، حين تقف به القراءة على أحد أبواب الكتاب: «اقرأ ولو سطرا من الباب الذي يليه، فإني لا أحب الوقوف على الأبواب».

كان طرح اسمي مثار جدل كبير، بعضهم قال: «سعد ضد الثورة»، فتطوع آخرون بتفنيد هذه المزحة. أصحاب الاتهام «فلول ملتزمون»، استفادوا من مبارك نظاما ورئيسا، ومن فاروق حسني ومن جاء بعده. فلول عابرون للأنظمة، من الاستبداد إلى الثورة إلى الاستبداد، في حين تشهد مقالاتي أنني لم أكتب شيئا أخجل منه، ومنحتني نقابة الصحفيين عن اثنين منها جائزة المقال السياسي، عام 2007 عن مقال «ماذا أقول لابنتي يا سيادة الرئيس؟»، وعام 2009 عن مقال «أربع نصائح قبل أن تركب سيارة الترحيلات».

كان الطريق إلى «الهلال» معركة أنا الغائب عن ساحتها، واستحضر في الجدل كتابي «الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير» ضد مبارك، وكتابي «سنة أولى إخوان» ويكفي عنوانه.

خاب سعي سدنة الاستبداد بإطلاق فكاهة «سعد ضد الثورة»، فقالوا: «سعد يشتم الجيش والسيسي»، واستدعوا من الخواجة جوجل نسخا من مقالاتي في «العرب»، وكان رد أعضاء آخرين في اللجنة أنني لا أخون نفسي، ولا أخالف ضميري في رفض قانون التظاهر، والمادة 67 من دستور 2014، واعتقال أي مواطن من دون توجيه اتهام، وإهانة أي متهم بالضرب أو السب ولو ثبتت إدانته، وعودة الشرطة إلى ما قبل 25 يناير 2011.

وبعد،

أبدأ تجربة رئاسة تحرير «الهلال» غير مثقل بأي فاتورة، أو عبء نفسي. لست مدينا لأحد بشيء، إلا للقارئ، هو سيد يأمر في أي وقت، ويطلب كشف حساب، وله أيضا أن يفتش في الدفاتر القديمة، والكتابة فضيحة لا يسهل سترها، تشهد لصاحبها أو عليه، فالنشر لا يبلى، والذنب في الكتابة لا ينسى. وحين أهدأ قليلا، وأنظر إلى الماضي، أشعر بشيء من الرضا، وأحمل أوراقي بيميني، وقد انتصرت فيها دائما لقيمة «الكتابة»، وكتبت عن فقراء لا يملكون إلا ثراء مواهبهم، أولئك الذين استجابوا إلى «نداهة» الإبداع، وفتنتهم الكلمة، وتركوا سيرة عطرة.. عبد الحكيم قاسم، ويحيى الطاهر عبد الله، ومالك حداد، ومحمد روميش، ونجيب سرور، وخيري عبد الجواد، وغيرهم.

لا أخجل من مقال كتبته، ولا أضطر إلى أن أطويه طي السجل.

…………

 

*روائي مصري

 

مقالات من نفس القسم