كتابات النفَس القصير| أكتب كعاشق أَكتب كميّت

شرح ديوان ذكرى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يوسف رخا

وما استغربت عيني فراقا رأيته، ولا علمتني غير ما القلب عالمه.

أعتقد أن الكتابة تبدأ من نقطة عميقة بين فم المعدة والقفص الصدري. لا أقصد أن أتفذلك أو أكون شاعريًا. أعتقد أن هذا هو موقع الحركة المعنيّة من جسم الإنسان بالفعل. وجع لا يُحتمل يدفعك إلى أن تنطق وكأن حياتك متوقفة على ما تقوله. وكأنك نسيتَ أن الكلام تدليس وفراغ لا يداوي. وسط متاهات اللغة كما تُعاش، على شبكات التواصل الاجتماعي بصاق وسكاكين ومشانق معلّقة بلا محاكمات، هل عاد في الكلام أصلًا مساحة لأي معنى؟

ومع ذلك، مع أن المكان سجن والزمن خدعة والناس أساطير، ما إن تحصل تلك الحركة في جسمك حتى يصبح اختيار وترتيب كلمات معيّنة على نَسَق معين مسألة حياة أو موت. وحدها الحركة المعنيّة تُطلِق الكتابة مثل ضربة أسفل الركبة مهما قاومتَها تؤدي إلى ارتفاع الساق. ليس هكذا بالضبط، لكن مساحة الإرادة أو الاختيار ضيقة فعلًا. وبالاستسلام للحركة يخِفّ الوجع قليلًا لكن لا يحصُل شفاء.

في النوبة التالية يمكن للأمر أن يتكرر، ولو تكرر عددًا كافيًا من المرات يمكن أن يصبح طريقة لمواجهة الحياة بالفعل. عندما تصبح الكتابة طريقة لمواجهة الحياة لا يمكن أن يكون الهدف من ورائها استعراض معرفة أو ذكاء، ولا يمكن أن يكون تفاصُحًا أو تنميق أسلوب. أقصد أنه حتى عندما يكون كذلك فتلك الأشياء هي الغلاف المطاطي المحيط بسلك يحمل التيار من جذعك إلى دماغ آخر. كهرباء تولّدها استحالة الحب وحتمية الموت وأشياء أقسى من الذكريات. كل أولئك الذين يخذلونك إلى حد الانتحار، بلا كتابة ماذا تصنع بأشباحهم؟ الحقيقة أنه يستحيل وجود هدف أصلًا.

طبعًا مع الوقت والدُربة، عندما تعمل في الصحافة أو تحترف نوعًا أدبيًا، تصبح هناك أهداف محدّدة، أن تسوق حجّة أو تحكي حكاية أو تختبر إحساسًا، هذا إن لم تفتح خطّ إنتاج له صيغة ثابتة، وحيث تأتي الأهداف تصاحبها أساليب أقل أو أكثر ميكنة لتحقيقها. لكنّ هذا كله أيضًا جزء من الإطار. بدون ما يحدث بين فم المعدة والقفص الصدري لا معنى لأي كتابة ومع الاعتذار لآلاف مَن تَروج أعمالهم لا متعة في قراءتها. أنتَ إذا كنتَ كاتبًا كما أفهم الكتابة، لابد أنّ لحظة مرّت أثناء النطق أو بعده فزِعتَ فيها من اكتشاف أن محتوى ما تقوله، الأشياء التي تدل عليها كلمات نصوصك في الواقع لا تهم، أو أنها لا تهم إلى أن يُستدَل عليها من خلال كلماتك هذه وعلى النسق الذي صنعتَه من أجلها بالذات. لأنّ القضية كلها في ما يستتبعه ذلك من كلمات أخرى تضيئها وترمي نورًا إلى قدام، ثم الشيء الذي يَنتج عن ذلك ليؤنس قارئه بتحوير الواقع والربط بين أشياء يشير إليها النص وأشياء أخرى في الحياة. أعرف أن هذا يبدو معقّدًا لكنه حسب خبرتي في عفوية وبساطة الحاجة الجسدية، العطش أو الجوع أو الشهوة، وإن كان أعنف وأصعب في تلبيته وأعقد في تجلّيه ومآله من هذه الأشياء.

بعد أكثر من خمسة وعشرين عامًا في قضية الكتابة أستطيع أن أعترف بأنها ليست إلا وجعًا بين فم المعدة والقفص الصدري ينسيك لا جدوى الكلام.

أعتقد أن الوجع هو ما دفعني إلى جعل هذه القضية مركز حياتي منذ سن الثامنة عشرة على الأقل. الوجع الجسدي الناتج عن معاناة نفسية لعلها خلل كيميائي أو فراغ اجتماعي أو أي شيء تافه يخبّئ وعيًا مأساويًا عابرًا لحياة الفرد بل والجيل. وماذا كان يعذبني بين حي الدقي غرب نيل القاهرة ومدرستي الواقعة كما كتبتُ في إحدى أولى قصائدي في ظِل الأهرام؛ كنت طفلًا محبوبًا ولم أكن قد أدركتُ أن صمت وبطء أبي أو نومه الدائم هو اكتئاب. كان فرقٌ طبقي بين البيت والمدرسة، صحيح. كان قلق لم أدرك أنه مَرَضي موروثٌ من أمي. وكان كلام كثير في رأسي لا أعرف معناه عن التاريخ والحقيقة ومعنى الحياة. بين التاسعة والعاشرة أدركتُ أني سمين. في الثالثة عشرة سافرتُ وحدي لأول مرة. كنتُ قد تخلّصت من وزني الزائد ولم أكتسب الجاذبية المرجوة بين أقراني الرياضيين من أولاد الأغنياء.

لكن في السادسة عشرة تفوّقت عليهم جميعا عندما أحببتُ مُدَرّسة الجغرافيا الإنجليزية فبادلتني الغرام. في ذلك العمر تكون الحياة مُثُلًا وطواحين. وكنتُ أكتب عن سبق إصرار وأفكّر في ما يجب أن يُكتب لكنّ النصوص الحية ظلت تلك التي تتدفق من نقطة عميقة في جِذعي بلا قصد ولا فهم سابق لمدلولها. ودونما أستوضح المسألة أو أواجه أسئلة من قبيل كيف تأكل عيشًا وهل للكلام الجادّ في مقتبل الألفية الثانية فائدة، بدا لي أن ذلك النشاط هو سببٌ كافٍ في حياة مجدية ذات قيمة. لم أكن قد فهِمت أنّ ما يُميّز هذه النصوص حقيقة هو أنها تضع الواقع في خدمتها بدلًا من أن تخدم الواقع. وهذا على طرفٍ نقيض من الكلام الذي يَخدع ويؤذي ويتيح للناس أن يستعمل بعضهم بعضًا بأشكال يبدو لي أنها تزداد غباوة وانحطاطًا منذ منتصف التسعينيات إلى الآن.

عندما بدأت لم أكن واعيًا بذلك لكن أعتقد أنه أكثر شيء أقنعني بالكتابة: إنها الحالة الوحيدة التي يكون للكلام فيها سيادة على الأشياء وليس العكس. المساحة التي يتسلّم فيها اللسان صكّ عِتقه من عبودية المصلحة والعقيدة والولاء بل والموت. وكلنا نُضطر إلى أن نموت قليلًا من وقت لآخر كما يقول مولانا روبرتو بولانيو. قال تعالى “وعلّم آدمَ الأسماء كلها“. اللسان بوصفه واجهة التواصل بين الوعي والواقع يبدو لي أهم شيء على الإطلاق. لكن يبدو لي أيضًا أن اللسان خارج هذا الفهم للكتابة يكون منتَهَكًا ومُهانًا إلى أبعد حدّ.

إذن سأصبح كاتبًا لكن ماذا يعني ذلك؟ هل أجد في تلك الصفة خلاصي؟ كانت هناك عوامل أخرى.

كوني ولدًا وحيدًا وميلي إلى الانطواء والتمحيص. سفري المبكّر للدراسة في إنجلترا وصدمتي في الحياة هناك. أو إحباطي مرة بعد مرة وبأشكال مختلفة ومتغيرة في شيء أحسه غاية الوجود كله وباستثناء نفس الوجع في نفس المكان من جسمي لا أستطيع تعريفه أو حتى التعرف عليه: الحب الذي لا يقابله أقل من الامتثال للموت، يتجلّى على هيئة شخص واحد لعله فعلًا لا يُعوّض مهما كان سيئًا لكنك حتمًا تتعذّب إذا رهنت كل حياتك على أهوائه يا صديقي.

أعتقد أن الكتابة كما أفهمها تختلف جذريًا عن تأليف يحقق شروط نوع أدبي أو قضية فكرية، وقد ضحكتُ أكثر من مرة بمرارة عندما رأيتُ كتابًا لي يُقيَّم على أساس اتساقه مع القواعد النوعية للشكل الأدبي المفروض أن ينتمي إليه أو الرسالة السياسية الأخلاقية المطلوب مساهمته في توصيلها. أعتقد أن أكثر ما يُشعِرني بالغربة كشخص يمكن أن يقول إن هذه مهنته هو إصرار الجميع على أن يكون للكتابة استخدام عملي كأن يعبّر النص عن موقف ما من موضوع ما أو أن يباع منه عدد نسخ محدّد أو أن يكون ملحقًا مناسبًا لدور يمثّله كاتبه على المسارح الافتراضية. وكم كرهتُ تجارة الهويات المربحة في أسواق الثقافة الأمريكية.

يبدو لي أن الكتابة في حقيقتها هي شيء بتعريفه ضد أن يُستخدم. إنها تُقرأ بالطبع، لكنها لا ينبغي أن تقرأ بنية أن تدعم فكرة أو تجيب عن سؤال، ولا حتى أن تكشف حقائق قد لا يحصّلها القارئ في مكان آخر. إنها تقرأ لتغيّر شكل الحياة. هل هذا ممكن وإلى أي حد؟ أعتقد أنه حصل معي في الفترة التي أدركتُ فيها أن الكتابة هي ما أريد أن أصنعه بحياتي.

قرأتُ تلك الرائحة لـصنع الله إبراهيم ورواية وجيه غالي الوحيدة، وفي الجامعة قرأت حكاية العين لـجورج باتاي. ولم أعد نفس الشخص ولا عاد العالم ذلك المكان الضيق. طبعًا هناك نصوص أخرى كثيرة من تلك الفترة وفترات تلتها. قرأتُ أشياء غيّرت شكل حياتي بالكامل وطمحتُ إلى تقطير خبراتي بنفس الطريقة لأغير حياة غيري من قبل أن أكتسب خبرات. عندها استقر في ذهني أن عملية إنتاج واستهلاك مثل هذه النصوص هي أقرب إلى لقاء حبيبين منها إلى البيع والشراء. في الحب تصبح شخصًا جديدًا. تغامر بذاتك لتكون مع آخر فيتغير شكل الأشياء. وهكذا الكتابة. في سنينَ تالية عندما أعلم أن أصل معنى كلمة كتاب في اللغة العربية هو رسالة، سأعتنق أكثر من مجاز بريدي حول ما يحدث عندما أكتب ثم يقرأني شخص لا أعرفه. وأستريح لجدوى الكتابة طالما يقرأني شخص واحد.

الآن أعتقد أن الكتابة هي السبيل الأوقع للتفاهم الحميم. سواء أوَجهًا لوجه أو عبر الأثير، عندما يكون الكلام مع شخص بينك وبينه علاقة، مهما حسنت النوايا فإن علاقتكما تنتهكه. لابد من مسافة يخلقها ترتيب فريد لكلمات منتقاة بلا قصد كامل ليتحول وجعك إلى شباك يرى مَن يقرأك من خلاله عالمًا جديدًا. وبصرف النظر عن اضطلاعها أصلًا بالكلام، يبدو لي أن الكتابة مثل الحب فِعل تشبّث مستميت بالحياة في لحظة يتمثّل فيها الموت أقرب وأوضح من كل مآرب الدنيا. وكما أنّ الحب ليس أفلامًا إباحية ولا أغاني عبحليمية بالذات، كذلك الموت ليس البكاء الشَجِن على فراق شخص تحبه يا صديقي. ليس طقوسًا جنائزية ولا غيبيات حتى في أكثر تصوراتها تطوّرًا تظل تدور بغباوة بدائية حول الجزاء والعقاب. الموت هو العدم الأسود الذي يجعل كل طرفة ولمسة واحتمال لقاء كنزًا معجزًا ليس التفريط فيه إلا الكفر نفسه. والحب لا يعدو أن يكون وعيًا صادقًا بالموت. هكذا الكتابة.

أعتقد أن الوجع من بداية الشعور به وحتى يجعل من الكلمات شبابيك عبر رحلة مضنية من جِذع الكاتب إلى دماغ قارئ لا يعرفه هو المحتوى الأعمق للكتابة. طبعًا يوجد موضوع وتوجد لغة، وحتى لو سعى الكاتب جُهده أن يتجنبهما: دائمًا هناك شيء يُكتب عنه ودائمًا هناك طريقة كتابة. المفارق أنّ هذين الشيئين هما كل ما يقال عن أي كتابة حين يقال عن الكتابة شيء، ولعلهما كل ما يمكن أن يقال بالفعل. وكأنّ ليس في الإنسان سوى جسد وحركات أو أصوات تصدر عنه. لكن الواقع أن الموضوع واللغة لا يختلفان كثيرًا عن الغلاف المطاطي للسلك الذي ينقل كهرباءك. المحتوى الأصدق وإن لم يأت ذكره مطلقًا في النص هو الوجع. إنه وجع استحالة الحب وحتمية الموت ووجع نصال تُسقِطها الحياة على رؤوسنا ونحن نمشي في الشوارع، لعل أمضاها كذب مَن نُراهن على صدقهم نافين الدليل الساطع وهو يبهر عيوننا تَعَلقًا بخيال أجدى عن الحياة التي نعيشها عندما نتقاطع مع أجسامهم أو نلاقيهم على النواصي مثل ملائكة ضالّين.

أكثر نَص أثّر فيَّ طوال حياتي إلى اليوم لا أعرف معناه بوضوح: يظهر ملاك إذا تبعته خسرت كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية. إنه وجع اللهفة على مَن لا يعمل لك خاطر ذرة تراب وقد غامرتَ بأغلى شيء عندك لأجل عينيه، أو وجع الغُبن الأرجواني عندما لا تأخذ ما تستحقه، أو وجع الإحباط الأخضر في مشروع بدأته وأنت تنوي غزو الفضاء ولم يسفر إلا عن مطعم كشري متواضع. لكن الأهم من كل هذا هو وجع الوجود نفسه يا صديقي. ماذا يعني أن نسكن ليس المكان ولكن الزمن؟ في كتابتي على الأقل، ودونما أتعمّد ذلك أو أعيه في أول عشرين سنةً مثلًا، هناك محاولة مستدامة لمحاكاة ما يعنيه أن تسكن الزمن وهو يتقدم بك ويغير ملامح وجهك ولون شعرك وطاقتك على الحماس للناس والأشياء، وما يعنيه أن يجعلك سكنك هذا طرفًا في مسار التاريخ أو على الأقل شاهدًا عليه.

يبدو لي أن خبرة الزمن هذه هي ما يميز الكتابة ويجعلها أكثر من مجرد كلام وأقيم من مجرد سلعة وأمتع من مجرد منتج ترفيهي يتفوق على المكتوب منه السمعي البصري وتحيله الثقافة الرقمية إلى زمن مفرّغ مثل الوقت الذي يمر وأنت على الطائرة بين مطارين. الكتابة زمن معبأ. لذلك تكتسب أخلاقيتها من كونها لا أخلاقية، وتُحقّق التعاطف الإنساني ليس بالتربيت والتحوير على سبيل المواءمة ولكن عبر نظرة لا يعنيها إلا رؤية ما هناك بكل قسوة وعزوف عن الزيف. هذا إذن معنى البحث عن الحقيقة: الغاية التي تَحضرني بِحِس مفارقة عندما أسأل نفسي لماذا تكتب أو ماذا تعني لك الكتابة. أبحث عن الحقيقة فعلًا. أبحث عن كلمات معينة على نسق تريحني من هذا الذي يبقبق بين فم معدتي وقفصي الصدري كلما عرّيتُ جلدي قليلًا أمام العالم. الحب من أمامي والعدم الأسود من ورائي، وفي المساحة الفاصلة حيث تزل قدمي لأقع وأقوم أو أبحث عن جسم أتقاطع معه من جديد نشاط مجدٍ. معركة حياتي.

مقالات من نفس القسم