نهى محمود
لم أفكر من قبل في مشاعري نحو نجيب محفوظ ، لا أتورط في مناقشات حوله ، ولم اكتب في أي دورية ثقافية طوال العام الماضي الذي بقى تحت عنوان “مئوية نجيب محفوظ ” أي نص حول ما كتب .
التزمت الصمت ، وكلما سألني صديق عن شيء يخص محفوظ تمتمت بكلام غير مفهوم ، وكلما طلب مني أحد المشاركة في ملف او كتابة عنه، عدت للتمتمة والهمهمة دون أن اعطي ردا، وفي اثناء ذلك أخفض رأسي وأنظر نحو الأرض خجلا وارتباكا ، حتى لو كان من يحادثني يمرر لي الكلام عبر الهاتف .
مرات نادرة أعلق فيها على رفضي الكتابة وأقول “لا استطيع أن أكتب عن ” نجيب محفوظ” وابتسم دون أن اشرح شيئا، وعندما ذهبت للمشاركة في “إحتفالية إئتلاف الثقافة المستقلة ” بمئويته ، في بيت السحيمي ، كنت محرجة جدا منه شخصيا ، وكأنه سيحضر ويسمع نصي ، وندمت كثيرا على النص الذي أخترته للقراءة ، وفكرت جديا أنه سمعه بطريقة ما ولم يعجبه .. وكنت متوترة بسبب ذلك .
لم يغير شيء من موقفي ، غير حلم جاءني ذات ليلة ، وعندما استيقظت جلست على طرف فراشي لا اصدق ما رأيته ، رفعت سماعة هاتفي وأتصلت بصديق أحبه واثق فيه ، وقلت له هامسه أني حلمت اليوم بنجيب محفوظ ، سألني دون استغراب ” كيف حاله ! أنا متأكد أنه في احسن حال وإنه في الجنة سعيد .
حكيت له الحلم ، فضحك ضحكة جميلة وقال لي أكتبي الحلم ، وظل طوال شهر كلما قابلني سألني عن الحلم وهل كتبته ، وأخيرا جلست لأكتب عن نجيب محفوظ لأول مرة .
ليس عن كتابته ، ولا عن تاثيره في الكتّاب او القراء او العالم أو البشر ، اكتب عن نجيب محفوظ الذي زارني في المنام ، صاحب أحلام فترة النقاهة ، ذلك الكتاب الذي قرأته في فترة كنت أستعد فيها للإنتقال من بيت مؤقت قضيته فيه عام لبيت جديد دائم .
كنت امسك الكتاب وأجلس على سجادة سميكة قليلا ومعي غطاء خفيف ، لا شئ آخر كل أشيائي في صناديق ، الفراغ من حولي ، ويمكنني أن اسمع صدى صوتي لو تحدثت قليلا مع ذاتي وطلبت منها أن تناولني شيئا من الحجرة الأخرى الفارغة .
كتاب أحلام فترة النقاهة وغطاء خفيف وسجادة وحقيبة يدي ، وملابس قليلة تصلح للنوم وللخروج وللتجول على سلم البيت هي كل ما كان هناك .
كنت أقرأ في الكتاب بإندهاش ذلك الذي كان عليه ان يتجول في قراءات عالمية مختلفة ثم يعود ليعرف أن محفوظ كان مجربا جميلا ، كنت اقرأ الأحلام وأتذكر قصة قصيرة هنا أو هناك قرأتها له ، ثمة علاقة غير مرئية بين ” مجموعته ” بيت سئ السمعة ” وتلك الأحلام .
بيت سئ السمعة – القصة- بدت لي إحجية حداثية يمكنني ان استخدمها لفك طلاسم المجتمع الذي يعاني الفصام المزمن .
الغريب في أحلامه تلك أنها كانت تمرر لي القدرة على الحلم ، انا البنت التي تعاني من ارق أصيل وقديم ، وتنام كل ليلة بعد الفجر بساعات ، نوم قلق مرهق ، استطاعت ان تصل لدرجة من النوم ، تسمح لها بالحلم.
أحلامي التي مررها لي كتاب أحلام فترة النقاهة ، كانت تخصني ، لكن شئ جعلني أشعر أن الكتاب هو السبب ، كل مرة اقرأ منه ، تجيئني أحلام في منامي وعندما انتهى الكتاب ، عاد النوم مضجر ، وصامت .
كنت كلما أعطيت الكتاب لأحد ليقرأه ، أحكي له أن الكتاب مرر لي الأحلام ، لكن أحد لم يكرر شكوتي تلك.
أنا أقابل نجيب محفوظ كل يوم عند مجيئي من بيتي ، ذهابا لوسط البلد ، أقابله كل يوم في ميدان سفنكس ، كل يوم ابتسم له ابتسامة خجلة ولا نتحدث ، حتى عندما شارك تمثاله هذا في الثورة على طريقته فأحتفى بالجرافيك والشعارات التي رسمت على قاعدة التمثال ، كنت فقط أمرر له الإبتسامة ، باعتباري كاتبة صغيرة تخجل من رجل بكل هذا الحضور ، اليوم الوحيد الذي ألقيت فيه التحية عليه ، كان في صباح مررت فيه جوار التمثال كالعادة ، فوجدت قطعة من القطن الابيض تحجب إحدى عيون محفوظ ، سألته حتى دون تحية ، من فعل ذلك ، أخبرني بطريقة ما أن شابا تسلق التمثال ووضع هذه الغمامة له بعدما طلب هو منه ذلك ، قالي لي اتضامن معكم ضد قناصي العيون ، أحيي شهداء ثورة مصر على طريقتي يا بنت .
هززت رأسي وحييته ثم مضيت .
في الحلم ، كنت أجلس على الرصيف في مكاني المعتاد ، أنتظر الأتوبيس لأذهب للجريدة ، مرت أمامي سيارة حمراء فيات 128 ، كانت تقودها سيدة محجبة وتجلس جوارها سيدة أخرى بشعر أشقر مرفوع ذيل حصان .
محفوظ كان يجلس على مقدمه السيارة من الخارج ، كان يبدو مرتاحا ومستمتعا في جلسته تلك ، كانت الشمس دافئة والمشهد مضئ ، وهو مبتسم ، كان في حوالي الستين من عمره ، كبيرا لكنه قويا وبصحة جيدة .
كان موكب السيارة مارا أمامي ، هنا أبتسم لي ذلك الرجل ، وقال لي ” نهى أزيك ، رايحة فين ؟
أخبرته اني ساذهب للجريدة ، أفسح مكانا جواره وقال لي تعالي وأجلسي جواري ، تلعثمت وتمتمت ، وأخيرا أخذت نفسا عميقا وبينما انظر للأرض من الخجل ، أخبرته أني سأنتظر الأتوبيس ولا أرغب أن اضيع وقته ، لكنه الح عليّ للمجئ ، وأصررت على الإعتذار .
أخيرا لوح لي وابتسم وغادر .
عندما استيقظت كنت محرجة جدا ، لأني قابلت نجيب محفوظ وتحدثت معه ، رغم كل محاولاتي للإفلات من ذلك .
فكرت في دعوته الكريمة لتوصيلي ، واخبرتني أني فعلت خيرا بالإعتذار ، حتى لا أضيع وقته ، لكنها كانت ستكون فرصة للتباهي ، كنت ساجلس بالمقهي وأخبر الأصدقاء أني جلست جوار محفوظ في الحلم ، وأنه اوصلني للجريدة ، كنت سأوسع في دائرة التكهنات ، وأشعل غيرة البعض ، لو وافقت على التوصيلة ربما كنت سأطلب منه توقيعا على نسخة ” أولاد حارتنا ” وأخبره أن الولد الذي يطحن الفلافل في محل ” نور الذي مر عليه بسيارته في الحلم سالني ذات مرة وأنا امسك هذه الرواية ” مش دي الرواية اللي نجيب محفوظ جايب فيها سيرة ربنا ، هي نفس النسخة التي سيوقع ليّ عليها .
تركتك تغادر الحلم ، دون أن أخبرك اني أحب رواية الحرافيش ، وأن صديقي الطاهر شرقاوي مفتون بها ،وأن صديقي محمد عبد النبي كان يضع صورتك على البروفايل في الفيس بوك طيلة العام الماضي احتفاء بك وبمئويتك ، وان طه عبد المنعم كان يعايرني كثيرا لأني لا أقرأك كما يجب على روائية في مقتبل حياتها الأدبية ، كان عليّ أن اخبره بأمور كثيرة .
لكني صمت وفي قلبي كانت ترن كلمته التي ختم بها الحرافيش ” انتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة ، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة … “