اضطراب الهوية الأدبية

غربة أحمد يماني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد خير

أمسك بكتفي وقال بصوته القوي:

"يا سبانخ، يا ملوخية، الاتنين مع بعض ما ينفعش"

كنا في شارع الجلاء، عصرية حارة مع بعض الغبار، والرجل بصوته الجهوري، وهيئته الضخمة – أو هكذا أتذكره الآن- يحاول إقناعي بالـ"تركيز" في مساري الأدبي، كان مشرفا على القسم الأدبي في جريدة العمال، حيث نشرت –عن طريق أبي-  أول إبداعاتي حين كنت في الصف الأول الثانوي، وقفت في هيئتي النحيفة، بين الرجلين، مشرف الصفحة، وأبي، أمام المبنى المهيب الضخم لاتحاد العمال بالقرب من ميدان رمسيس، سعيدا لأنني نشرت لتوي في الجريدة العمالية قصيدة عامية، وقصة قصيرة، نوعين أدبيين، استدعيا من المشرف الأدبي هذا التشبيه الغذائي.

لكني لازلت ممتنا له، لا لأنه نشر النصّين – رغم تحفظاته- فحسب، ولكن لأن تلك النصيحة، بغض النظر عن نوع التشبيه، أهلّتني لأن أسمعها مرارا فيما بعد بعشرات الطرق المختلفة، في مقابلات ومحاورات وآراء، تمحورت كلها حول: لماذا لا  “تركّز”؟

  رأيت مرة فيلما وثائقيا عن الأرقام، استضافوا فيه عالم رياضيات، هو الذي وضع البرهان الرياضي للعدد (جوجل) الذي يعني: “واحد وأمامه 100 صفر”. فماذا يعمل العالم المحترم في وقت الفراغ؟ ما هي وظيفته الأخرى؟

إنه لاعب سيرك. ولم يقل له المحاور أن يختار بين السيرك والسلك الجامعي.

ماذ كان ليقول المشرف الأدبي العمالي لو التقينا الآن، أي تشبيه كان سيستخدم؟ شعر العامية انقسم إلى عامية وفصحى، والقصيدة صارت قصيدة وأغنية، أو في الواقع عشرات الأغنيات بين المسرح والإذاعة ومسلسلات الطفل والتجارب الغنائية الشابة، القصة صارت قصة ورواية، وتجارب محدودة في السيناريو الروائي والوثائقي، هذا كله فضلا عن المقال الصحفي “أكل عيشي الذي أستطعمته – تشبيه غذائي أيضا”،  هو “توسّع أفقي” كما كان يسميه هاني درويش بلغته الاصطلاحية، بالنسبة لي كنت أسخر من نفسي “اضطراب هوية أدبية”، ذلك أنني بالفعل قد أضعتُ نفسي عدة مرات بين الشعر والقصة والصحافة.

لماذا أشغلك بكل ذلك؟

 في الواقع كي أشكو لك أمرا آخر .

 شوف يا سيدي.

يمكن للشاعر الاسترخاء حين يشاهد فيلما أو يقرأ رواية، لا يمكن له أن يسترخي  حين يقرأ شاعرا آخر، خاصة إن كان حيا، أي منافسا.

هي بالطبع، أيضا، أزمة السينمائي حين يرى فيلما، الروائي حين يقرأ رواية، يمكن لكل مبدع أن يرتاح – ويستلهم – عبر  تلقي الأنواع والأشكال الأخرى، قبل أن يعود إلى المعركة الدائمة –الذاتية طبعا- مع أبناء الكار. 

فماذا لو كان له في كل نوع مطمع؟  في كل بستان زهرة؟ في كل ميناء زوجة، في كل خرابة عفريت؟ اختر الكليشيه الذي يناسبك. هنا لا يمكن له أن يسترخي أبدا، سوف تستفزه القصص والروايات والقصائد والسيناريوهات والأغنيات، هذا مرهق جدا، هذا يفاقم الاضطراب. الأسوأ؟ طالما تورط في الأمر لا يمكنه التراجع. كما أنه سوف يُسأل باستمرار عن الهدف من “التنوع” كأنه اختار الأمر. لا لم يختره. لكن يمكن أن تتخيل وسواسا قهريا يجبر المصاب على الدوس فوق كل بلاطات الغرفة. ويمكن أن تتخيل رغبة في التجربة والتنويع (تفسير واثق مناسب للحوارات التلفزيونية)، ويمكن – في لحظات الاكتئاب – أن تتصوره ليس شاعرا كاملا ولا قاصا كاملا ولا صحافيا كاملا، وفي لحظات الابتهاج لك أن تقول أن الكل أكبر من مجموع أجزائه.

كان يفترض، بهذه الكلمات أن تكون شهادة عن الكتابة، صرت أؤجلها متخيلا نفسي في مكان هاديء أحتسي قهوتي وأطبع  كلمات مطولة تظهر فيها أمي وحبيبتي والمدرسة وديواني الأول، لكن واقع الأمر أنني أجلس هنا منحنيا جوار النافذة –ومتأخرا عن العمل- ولا أسمع سوى صوت الحفّار في مشروع الإنشاءات بجوارنا،  تتجاوب معه  دقات غير منتظمة في شقة ما في دور علوي ببنايتنا، جحيم صغير لا يناسب هذه الأيام من مارس، وسر هذه الكلمات أنني حين جلست وقعت عيني على  رواية تأخرت في قرائتها للأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، وفكرت أن سر تأخري في قرائتها، هو أنني أتوجس كثيرا من أمثال إبراهيم، أولئك الذين يبدعون أنواعا مختلفة من الكتابة.

 عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم