اليوم هو يوم مناقشتي لرسالة الماجيستير التي أعددتها عن الربط بين نظرية الأوتار وفيزياء الكم، في محاولة مني لتوحيد قوي الطبيعة هاهاها أحاول إنجاز ما لم ينجزه اينشتين !ركبنا السيّارة، هاه أتذكر تلك الرحلة الطويلة التي قطعها ثلاثتنا، كنت في الخامسة من عمري عندما هاجرنا من لبنان بسبب الحرب، ذكرياتي هناك قليلة، كل ما أذكر هو أن تلك المرأة التي معي بالبيت كانت قبل أن نسافر تبكي وحولها نساءٌ متشحات بالسواد ، فهمت بعدها أن هناك شخصاً ما قد مات ! لم يخبروني حتي بعدما كبرت من كان الراحل -أو الراحلة قد تكون أمي ؟؟؟- يا ربي كدت افقد عقلي. أبي كان يقول لي ناديها باسمها و لا شيء آخر، و هذا ما زاد حيرتي! كأنهم بنزولهم مصر أرادوا أن يقطعوا أي صلة بالماضي، تحركنا أخيرا وأنهالت علي اتصالات التهنئة قبل حتي أن أناقش الرسالة و كلهم يخبرونني أنهم ينتظرون بالقاعة.
وصلنا و دخلنا ، قابلني كل أصدقائي بالابتسامات والقبلات، بدأ النقاش، بفضل نزعة ابي الرومانتيكية التي وصلتني بلاوعي من قراءته و كلماته و كتاباته بعدما أنهيت المناقشة قال لي البروفيسور مُسَلّم شلتوت :سيرينا تناقشنا أنا و لجنة التحكيم عن رسالتك التي و لاشك موضوعها مهم، أري أنك قد كتبت الرسالة في صورة رواية بوليسية و لاعجب ! فأباك هو باسم محمود سيّد السرد السرد العربي والذي رشح لنوبل أكثر من مرة و اقترب العام الذي توقع لنفسه فيه أن ينولها في قصة كتبها يوما ما قرأتها ، بجانب الاسلوب الذي طبعه فيك أبيك باسلوبه الفطري بلا تكلف، هناك ملمح جديد أضفيته علي العلوم ذات الطبيعة الجامدة ألا و هو :النزعة الروحانية و الرومانسية.
ثم ابتسم وقال: قد تكون قد قرأتِ أول قصة كتبها والدك و ما تبعها من حكايته التي لا أعرف أهي حقيقة أم خيال عن الشيخ زهران الصوفي ،ثم ضحك و نظر للحضور: معذرة يا سادة، هذه أول مرة أصادف فيها مثل تلك الفتاة، أريد أن أخبركم شيئا، أرسلت الرسالة إلي البروفيسور ميشو كاكو، و قد ذهل بما تضمنته! أخبرته أن والدها روائي لامع و أخبرني أنه سمع به و لكن للأسف لم يقرأ ، و طلب مني شيئا هاما ، ثم صمت و نظر لي : أن تكون رسالة الدكتوراة تحت إشرافه هناك بأمريكا !
نطق البروفيسور تلك الجملة و كأن الارض دارت بي و كدت اسقط ،صفق الحضور و صاح اصدقائي وانطلقوا من كراسيهم وحملوني علي أكتافهم يحتفون بي، أعلنت اللجنة منحي درجة الماستر بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، و ترشيحي للسفر للجامعة … لاكون ضمن فريق صاحب “فيزياء المستحيل” طلب والدي أن يلقي كلمة قصيرة ، صعد المنصة وبنبرته الساخر وبسمته المعهودة التي أصاب والده حين سمّاه :”باسم”
مساء الخير ، شكرا للحضور الكرام ، يوما ما ، كنت أريد أن أدخل كلية العلوم لادرس الفيزياء ، و مازالت تلك الرغبة موجودة ، و هذا يفسر سبب شرائي للتليسكوب الذي وضعته فوق الغرفة الخاصة في الفيلا ،
سادتي ، أود أن أطرح لمحة بسيطة أستكنه فيها الرابط بين ما هو مادي نؤمن به عن طريق النظرية و الاثبات و بين ما هو لامرئي نخمنه أيضا بالنظريات تارة و نحاول بالادب تارة أخري ، جسدت إبنتي في رسالتها العلمية شيئا من دون أن تدري كان هو التفسير للإلتقائي بإمرأة حياتي.
الشبيه ينجذب إلي الشبيه ، لأنه لا يرتاح إلا معه ؛فالطيور علي أشكالها تقع ، و الرجل ينجذب للأنثي لأنها تكملها ، و الشحنة الموجبة تنجذب للشحنة السالبة-لا إلي مثيلتها الموجبة ، أي الضد ينجذب للضد ، هذا يدفعنا لتساؤل بريء: ما هو القانون الموحّد لهذا التناقض ، تجاذب الأضداد، أم تجاذب الأشباه ؟ عن نفسي ، أؤمن بتزامن الأضداد و تلك كانت أحد قصصي كمحاولة يائسة مني كمساعدة أدبية للفيزيائيين لتوحيد قوانين الطبيعة في قانون واحد .
ابتسم أبي و ضحك الحضور ثم شكرهم و نزل لنلتقط الصور التذكرية و وقفت بجانبي تنظر إلي و تهننئي همست لوالدي : ” أرايت يا بابتي ؟ لقد فعلَتْها ” و ابتسمت ، ثم قال لي: فخورة بك .. كم أحبك ” نظرتُ للمصور و أنا أستعيد كل مجهودي البحثي و مشواري من لبنان إلي مصر ، و وصولي لتلك اللحظة و حتي الآن لم أعرف بعد هل تلك المرأة التي لا تكبر و لا تشيخ:هل هي أمي أم أختي تلك التي كانت تناديه كما أناديه : “بابتي ”