كان يماني قد كتبَ قصيدة نُشرت في إحدى المجلات أفاض فيها في رسم طقوسه الذاتية، بزاوية نَظَر تبتعد بمراحل عن التوهج والإشراق والحكمية والمجازات الفاقعة بالطبع، كتابة أقرب للحكي أو للسرد البارد الذي تحس معه أنه لا رسالة معينة بالذات، تقصد أو تطمح هذه الكتابة لتوصيلها، اللهم إلا إذا كانت هذه الكتابة، بمجافاتها للرسولية، في حد ذاتها هي الرسالة .. من هذه التفاصيل التبول على سبيل المثال .. لا سمو و لا هدفَ كبيراً وعظيماً ولا مغزى بعمق البحر وبُعْد النجوم وقرب إشعاعات الشمس .. اللهم إلا التواصل الإنساني البسيط المجرد من كل أشكالا الهالات .. الصداقة ، بين شخصيات عادية وواقعية ، من بينها وليس على رأسها ولا مميزاً فيها على الإطلاق ، ذلك الشاعر وأشباهه المبدعين الذي خَلَعوا قُبَّعات النور فتنفسوا بشكلٍ أفضل .. شخوص تقابلها حولك في كل مكان وفي كل وقت ، لكنها قد تكون وحيدة وبالضرورة .
كان الواقع الثقافي يُصَدِّر أسماء الأصدقاء الثلاثة إيمان مرسال وأسامة الديناصوري وأحمد يماني عندما يتحدث عن جيل التسعينات ثم تأتي بقية الأسماء .. ذلك الجيل الذي كان ساعتها شاباً وصاخباً وله مناوئون أكبر سناً وأكثر صخباً وقسوة .. ثم رحل الثلاثة ، مات الديناصوري وسافرت إيمان وسافر يماني، ولكن قصائد أسامة كانت قد بدأت تبني أسطورتها الذاتية وتثبت في الوعي والذاكرة كلما أعيد اكتشافها، وقصائد إيمان وأخبارها تصل إلينا أولا بأول.
وكان الدور على يماني الذي أضاف الترجمة إلى جوار نصوص أكثر نضجاً وعمقاً وإنسانية .. ترجمات منتقاة بعناية ومصاغة بطريقة الشاعر الرهيف والحاد معاً والماكر على الدوام ..
كان هذا الحراك في القاهرة فقط أما في باقي أنحاء مصر فكان يصعب عليك أن تجد من يتواصل مع دواوين يماني الخارجة من النشر الخاص ونسخه المحدودة ، ناهيك عن قصائده المنشورة غالباً في مجلات تتفق مع ذوقه الخاص ورؤيته ، مجلات الهامش ، التي تعبر كل منها عن حركة واتجاه يود أن يعيد النظر في الثوابت المتكلسة .. واستمر هذا الغياب إلى أن أعادت مكتبة الأسرة نشر ديوان ” أماكن خاطئة ” فصرت تتقابل مع من يمدح الجو والتفاصيل الأوروبية التي يلتقطها شخص شديد المصرية والحساسية اسمه أحمد يماني، أو يندهش آخر من التماهي بين الأبيض والأسود لمَّا تظهره هذه الذات الشاعرة والمتشظية بما يعني الاتساع ، والمنفتحة على زمان ملتبس يخلق جغرافيته كلما تتبدل أقنعتها ومناخاتها النفسية بالأساس .
يعجبون بالتواصل الذي تم والصداقة التي نَمَت بين أُناسٍ ، الألفة والدفء والحميمية على بُعْدِ خطواتٍ من ظلالهم .. وكائنٌ وحيدٌ يقبعُ في لوحةٍ تمتلئ بتلالٍ باردةٍ وغربةٍ ذاتيةٍ تشبه الجِلْد المُمَّوه ، لا تغادر ولا تغيب …