“كائنات من غبار” لهشام بن الشاوي : رواية بروليتارية تحتفي بالحب الافتراضي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى لغتيري*

دأب مؤرخو الأدب على اعتبار الرواية ملحمة البرجوازية، و لعل السبب في ذلك أن ظهورها كشكل كتابي ارتبط بانبثاق البرجوازية إلى الوجود و سعيها الحثيث للتحكم في وسائل الإنتاج، لتكون وريثة شرعية للارستقراطية و الإقطاع، فلم تتوان في خلق الشكل الأدبي الذي يعبر عنها و عن طموحاتها، و مما يؤكد هذا الطرح أن شخوص الرواية الأثيرين، هم أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة أو المتوسطة، من موظفين و أساتذة و أطباء و كتاب... و بطريقتها الفنية تنبري الرواية لشرح ظروفهم المعشية، و التعبير عن همومهم الوجودية و النفسية، و تصوير تطلعاتهم المشروعة و غير المشروعة، و المتتبع لمسار الرواية الطويل، سيلمس - لامحالة- صحة هذا الطرح، سواء تعلق الأمر بالمتون المغربية أو العربية أو العالمية، بيد أن هذه القاعدة غير مقدسة، إذ لا نعدم بين زمن و آخر روائيين يجنحون عن هذا التوجه، فينتقون شخوصهم من الطبقات الاجتماعية المسحوقة، تلك التي تكتوي بنار شظف العيش، دون أن يمنعها ذلك من السعى جاهدة لاقتناص لحظات المتعة العابرة، و من هؤلاء حنا مينة و محمد شكري و غيرهما.

و أزعم أن من يقرأ رواية ” كائنات من غبار ” الصادرة حديثا، لن يتردد في إضافة اسم كاتبها هشام بن الشاوي إلى هذه الثلة من الروائيين، الذين استهواهم المهمش و الهامشي في درجاتهما القصوى، فالسارد في هذه الرواية ينتمي إلى الطبقة “البروليتاريا “المسحوقة، التي تكسب رزقها بعضلاتها و عرق جبينها بمعناه الحقيقي و ليس المجازي، فهو يشتغل في أحد أوراش البناء صحبة رفاق من طينة خاصة، أول ما يدل على ذلك أسماؤهم، التي نحتت على المقاس حتى تناسبهم، و هي في الغالب ألقاب يطلقونها على بعضهم، فتتغلب على أسمائهم الحقيقية، بل تمحوها إلى الأبد، وهذه الألقاب من قبيل ” كبالا ” و “بعية ” و ” بو الركابي”.. هؤلاء الرفاق يطربون و ينتشون على إيقاعات المغني الشعبي “الستاتي “، و هوايتهم المفضلة التحرش بالنساء بطريقتهم الخاصة، التي تشبه ما قام به ” كبالا” الذي “أفرغ الكأس في جوفه دفعة واحدة، و ردد بصوت طفولي حاد، كما تعود حين يرى نسوة مارات أمام الورش :

” وا باااغي اللحممم، و اباغي لحايممممة رطيبة “، يفهمن غزله الوقح البذيء، يتضاحكن في غنج مزهوات بأجسادهن ” ص 76.

و مما يؤجج طابع الإثارة في هذه الرواية أن السارد متورط في قصة حب افتراضي، مع امرأة سورية، يتواصل معها عبر الانترنيت و يجمع بينهما أحد المواقع الإلكترونية، هذا الحب الافتراضي يتسامى به السارد عن واقعه المر، الذي يفرض عليه حياة قاسية و صعبة مع رفاق لا يفهمون الحب إلا في الممارسة الجنسية، و هم يسخرون من عواطفه الجياشة تجاه امرأة تفصل بينه و بينها آلاف الأميال، و هكذا ما إن يسمعونه يحدث حبيبته، التي تهاتفه على حين غرة، حتى يسخرون منه ” خاصة و هو يتكلم بلهجة مصرية مع حبيبته التي يسميها” قطته الشامية ” “.

كتبت هذه الرواية بأسلوب سلس و ممتع و متين، يفاجئ القارئ بانسيابيته، و جمله السردية، التي تحكم الكاتب في بنائها بشكل يفي بالمطلوب، و هذا ما يجعلني أدعي – قرير العين – بأن هذه الرواية تؤشر على ولادة روائي مغربي قادم بقوة، فلنتأمل هذا المقطع الوصفي من الرواية :

“في هدأة الليل البهيم، تلوح القرى المجاورة غارقة في صمت أواخر الشتاء. يتناهى نباح الكلاب متقطعا و بعيدا. النجوم تسبح في الفضاء السحيق تحرس القمر الشاحب، و قد توارى خلف السحب.

قبالة البيوت، نصبت خيمة كبيرة في الساحة الواسعة، إضاءتها الساطعة تسلب ليل القرية صمته الجليل و ظلامه الدامس. يلوح الحزن على صفحات وجوه الفلاحين، المتناثرين داخل الخيمة، مشكلين جماعات صغرى، متفرقة، متحلقين حول الصواني الشاي و أطباق الكسكس، تحدثوا بصيغة الماضي عن الجد الفقيد – بكلمات مختصرة، كأنما ينتزعونها انتزاعا من قلوبهم – عن تعلقه بقريته، التي لم يفارقها إلا لماما” ص 72.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص و روائي مغربي

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم