“كأن تنقصه الحكاية” إجابات مُحتَمَلة لسؤال الجمال والصدق

كأنه تنقصه الحكاية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أريج جمال

عام 2014 التقيتُ جيلان الشمسي في ورشة القاهرة للقصص القصيرة التي أعلن عنها ونظمها معهد جوتة الألماني بوسط البلد، كُنّا أنا وجيلان ونهلة كرم وأسماء الشيخ وسلمى هشام فتحي وكارولين نبيل والضوي محمد الضوي ومينا وليم وباسم عبد الحليم ومصطفى عبد العزيز ولؤي ياسر، نجتمع مع عباس خضر الكاتب العراقي الألماني، الواصل دائماً لفترة قصيرة من برلين، لنتحدث حول كل شيء له علاقة بالفن، عن الكتابة الأدبية كفن، يستمتع به الكاتب قبل القاريء، ويقدم من خلاله وجهة نظر عن العالم، وبينما ثرثرنا جميعاً على نحو ما، تكلمت جيلان الشمسي قليلاً إذا حدث وتكلمت، المهندسة التي تعمل في شركة “سيمنس” الدولية، كان قد صدر لها قبل لقاءنا بثلاث سنوات مجموعة قصص قصيرة بعنوان ” يوماً ما سأكون شمساً” عن دار العين 2011، لم أكن قد قرأتها آنذاك، لكني أذكر كلمة “سوريالية”، التي استخدمتها جيلان لوصف قصصها كبديل عن القالب النمطي للقصص، تدور قصص جيلان دائماً في عالم آخر أو في عالمنا لكن بسخرية، تحاول البحث عن الذات في “سأكون شمساً”، وعن الآخر والجسد وحدود هذا العالم في مجموعتها الثانية “كأن تنقصه الحكاية” الصادرة مؤخراً عن دار العين للنشر.

إن ربط الكتابة بالفن، هو ربط عزيز، ولم أكن ساعتها قد فهمت كثيراً عن المفاهيم النمطية التي تحكم تلقي فن الكتابة في الوسط الأدبي، الفكرة السائدة عن الأدب باعتبار أن عليه مناقشة أفكار تنتمي لاتجاه ما يحاول استنساخ وإعادة استنساخ نماذجه، كان بالنسبة لي يخصم باستمرار من “القيمة الجمالية” التي لم تعد كثيراً في الحُسبان. حتى بالنسبة لمُستهلكي الفن عالمياً، وبالنسبة للنقاد. بالنسبة لي لا يمكن فصل قيمة الصدق عن القيمة الجمالية، وعلى الرغم من أن فلاسفة علم جمال الفن اختلفوا حول إمكانية تحديد تعريف واضح للصدق الفني، إلا أنه يمكن استنباط أن الصدق في الفن يعني أن تؤدي المُعطيات في العمل إلى نتائجها، الأعمال الصادقة قد تكون هي الأعمال التي تتدفق وتعبر عن نفسها ببساطة، غير مستندة إلى رغبة الفنان في إثبات انتمائه لفكرة ما عن الأدب، وفي نفس الوقت هي الأعمال التي لا تسعى للقفز مقدماً إلى نتيجة قد تغازل قطاعات كبيرة من القُرّاء لأهداف تجارية. قد يكون هذا الكلام عاماً أكثر مما يجب، لكني فقط أريد أن أقول، ككاتبة وكقارئة، وكدارسة ومتعاطية مع النقد الأدبي، إنه عموماً يصعب على السياقات الرسمية المُتلقية للفن، أن تتعامل مباشرة مع قيمة الجمال في العمل الأدبي، كلمة “جميل” يمكن أن نقولها دائماً مع الأصحاب وفي الدوائر الأليفة، لكنها تُعتبر حُكم قيمة ينبغي تفاديه إذا انتقلت لسياق قراءة متخصصة لعمل أدبي.

في الواقع أدت موجة الفن المعاصر عالمياً إلى ازدياد حالة الاحتياج للجمال، بينما تنطلق مقالات ودراسات فلسفية عن أثر الأعمال الرديئة “القبيح” على جمهورها، المتوجِهة إلى مُستهلِك يبتاع الأعمال الفنية بغرض المباهاة بها، مُعبراً من خلالها عن طموح طبقي ونخبوي يمكن مبادلته بمقابل مدفوع، عن برجوزايته، بتعبير بعض فلاسفة الفن المعاصر من الفرنسيين، كان ميل هؤلاء الفلاسفة إلى تفكيك ظاهرة الفن المعاصر مرتبط برؤيتهم لتأثير “القبح” على الإنسان في حالته كمُتلقي، رأوا أنها، أي الظاهرة، أدت مع الوقت إلى تخريب القدرة على الاستمتاع بالحياة وعلى التذوق، وزعم آخرون أنها بسبب طابعها المادي الصرف ومساومتها الضمنية، أفقدت الجمهور القدرة على الحُب، الفعل الذي يبدو هنا في هذا السياق، فعل روحاني ليس له أثر ملموس بالنسبة للبرجوازيين.

من المنطقي إذاً اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نرى إلى الجمال وقرينه الصدق كما لو أنهما الوسيلة الباقية لحماية أرواحنا، ولدفعنا باتجاه نوع من الفن يمكن أن يقدم للحياة معنى. حالة الفن المعاصر فرنسياً لها ما يشبهها في مصر، أمام أفلام السينما التجارية لم يعد بإمكاننا أن نتكلم عن “الفن السابع”، الصيغ التي تُنتج بواسطتها الأفلام لا تتغير، ولا ترى في نفسها عيباً. يتجلى التمجيد المصري لقيمة “التسلية” في الإنتاج الضخم الذي تحظى به مسلسلات شهر رمضان كل عام، في الكتب هناك أمثلة عديدة لا داعي لإهدار الحبر في الإشارة إليها، الإبهار والتسلية هي الأشياء التي يُجيد مَنْ تحت الأضواء تقديمها، في المقابل يُعيد المُتلقي الذي تم تخريب ذائقته من قبل، والذي يحمل توجهات طبقية وسياسية معينة، طلب الوجبة نفسها.

إنني أعتبر “كأن تنقصه الحكاية ” هو عمل جميل وصادق (وكل عمل جميل هو بالضرورة صادق)، وأعتبره إعلاناً للتمرد، ضد أنماط من التغييب العمدي للُحب من حيواتنا، وبالتالي الجمال. هذا ما أحاول إظهاره جزئياً، في هذه القراءة المُتَعجِّلة، وأستخدم بضع مقابسات من النص نفسه دون إشارة إلى مصادرها المحددة أحياناً.

تقول جيلان ضمن ما تقول “لم أكن يوماً ممن يملكون نبرة الصوت اللازمة لاسترعاء الانتباه”.

في كتابها الأول “يوماً ما سأكون شمساً” كنا قُدّام نفس العالم الشعري الذي سندخله هنا تقريباً، بطلة / بطل، دائماً معطف، هرولة مع ظمأ متواصل للالتحام بآخر في عالم هارب من الذات الساردة، كانت هناك أسئلة حول الفن، أعني في “سأكون شمساً”، يمكن حتى ملاحظة الحضور الهائل للفن التشكيلي تحديداً كمجاز عن الفن، كلمة لوحة كانت تتردد مراراً، كان هناك سجائر وقهوة والكثير جداً من الخوف، العالم القوطي الذي قد يستدعي أحياناً إدجار الآن بو الشاعر والقاص الأمريكي، العالم السوريالي الذي قالت عنه جيلان يوماَ ما، كان هناك ذات منقسمة على نفسها، ومتكررة أحياناً إلى ما لا نهاية.

“ألقي بجسدي كله أرضاً وأمسك قدمي بيدي في الوضع الجنيني المُحبب لقلبي”.
“ألمحها هناك نائمة أرضاً .. متكومة في الوضع الجنيني المُحبب لقلبها“.

لقطة تُذكِّر بلوحة “لا يمكن إعادة إنتاجه” لرينيه ماجريت مثلاً هو الرمز للسوريالية الخالدة، كانت أزمة الذات الساردة وسأسميها هنا، الذات الفنانة، كانت أزمتها أنها غير متأكدة من وجودها، والكتابة كأنها محاولة للبرهنة على هذا الوجود.

في “كأن تنقصه الحكاية” وهو التجربة الثانية لجيلان تتأكد الفنانة من وجودها، حتى أنها تبدأ في إخفاء ألعابها، صورها، وتستعمل ما فوق واقعيتها هذه المرة بجرأة أكبر، المقاطع طويلة (واثقة) وتقريباً لا وجود للفصلات داخل المقاطع، لدينا فقط نقطة وقوف بعد كل جملة، نقطة حسم.

في الواقع يمتليء “كأن تنقصه الحكاية” بالحكايات التي تتطلب شجاعة من قارئها كما طلبت من قبل شجاعة فنانتها / كاتبتها.

“لم أكن يوماً ممن يملكون نبرة الصوت اللازمة لاسترعاء الانتباه”.

“لا شيء يجمع بيننا. لا سن لا نوع لا أقدمية حتى“.

ابتداءاَ من القصة الأولى “آينشتين” سيكون علينا توقع مفاجأة من نوع ما كلما أوغلنا، شيء غير متوقع حدوثه بالمرة، مثل صورة آينشتين التي تتسرب إلى مكاتب الموظفين في المبنى الكبير بأجوائه الكئيبة دون أن نعرف مَنْ وراء تسريبها، حالة البرود التي يحكي بها البطل قصته تبدو كانتقام ساخر من العالم الذي يدور كالماكينات في مصلحة اللا أحد، يكون العدم هو النقيض من حالة الحُب في ممارسته العُليا وفي انسحابه المتواصل من العالم وإعادته إلى المربع الأول، كئيباً ولا يمكن احتماله، ينتمي الكتاب بهذه الصورة أيضاً إلى الرومنسية كمدرسة كبرى في الفن، وكان بو أحد رموزها، تعود روح الفنان للانتقام كل مرة بفنها نفسه، تُمثل صورة آينشتين المستنير بفيزيائه فناً ضد جهل النظام، في “اختفاء عازف التشيللو” نجد أن الموسيقى التي تركها العازف تحلّ في بيته، وسط جيرانه، تزعجهم، تمنع عنهم النوم، وفي موته يُسبب العازف ما كان يُسببه في حياته، قلق الناس، عدم ثقتهم به ولا في تأثيره، ربما هكذا يُرى الفن من أبناء نظام الشركات.

“الفنان يرتدي الساعة في يده اليمنى. من يثق في عازف يضع ساعته في يده اليمنى”.”كان يطيل شعره. هل يمكن لأحد أن يثق في فتى يطيل شعره“.

في قصة مثل “أصوات المقهى القديم” التأكيد على الثيمة نفسها، الفن باقٍ، رغم حضور “هُم” المُطارِد، “هُم” مصدر خطر على الدوام ومصدر تربص بالفن، خلاصة العالم.

“تتزايد الأصوات بالخارج. شعور ينتابني مع ازدياد الأمطار بقرب مجيئهم. أنهض من مقعدي متجهة نحوه بجوار البيانو. يمكنني العزف عليه إذا أردت.
يستكمل مسحه للأتربة دون النظر نحوي.
– لو سمعوه سيأتون”.

غالباً ما تُكشف حالات الحُب، حالات الفن، تُكشف على العلن لكن هذا يبدو وكأن تأثيره مضاعف، فالعازف الذي اختفى تحل روحه في آلته ويعزف أخيراً، والبيانو سيسُمع صوته داخل حتى الصورة الفوتوغرافية.

“سيجدون ذلك الصندوق المغلق يحوي جواز سفر، قصاصة ورقية، وصورة مهترئة لفتاة ترقص مع فتى على أنغام بيانو مازال يصدح في المكان“.

في هذه العبارة الأخيرة نسمع الصوت داخل الصورة، هناك جو عام يشبه الأحلام في ضبايبته، والسينما دائماً.

“كانت أيسل تعشق الضغط على الزجاجة عدة مرات برفق كي يتناثر العطر فوق فراشنا. أعلق مازحاً “الأفلام اللي بتشوفيها”.

الموت حاضر في “تنقصه الحكاية” كما كان حاضراً في ” سأكون شمساً”، لكنه لا يُذكر صراحة، هو غياب الحضور الجثماني الحبيب، وهما كما قلت إعادة العالم للمربع الأول الكابي، لكن ببعض الدفء الداخلي الذي يسمح بالكتابة يعني يسمح بالفن، يصبح الموت هو نهاية المطاف بعد معاناة لا تتوقف، في ذلك العالم المُشوه الذي كانت تظهر فيه صورة “آينشتين” عبثاً يصبح الاعوجاج نتيجة طبيعية، أليس المرض أحد أهم ملامح المدرسة الرومنسية في الفن؟

الألم / المرض / اللعنة أحياناً، دوافع لمواصلة الحكي عن عالم آخر هو دائماً بعيد.

“ أشخاص آخرون يحيطون بكرسيها المتحرك متحدثين دون أن تتمكن من التعرف إليهم. لم تعد تتذكر أحداً”.

” لا تتمنى سوى أن تحتفظ بالخلية التي تحمل ملامحه وعطره داخل رأسها. فليذهب من عداه“.

الحُب هو النغمة التي تضبط عليها جيلان سعيها في اتجاه الفن، والحب هو الذي يؤدي إلى اللوعة الحتمية، التي تلد الحكايات.

“جسدها قد صار هزيلاً. بدأت تزداد ضآلة كل فترة. مصيرها يتحول لنفس مصير أخيها بعد زفافه. أما لهذا الاختفاء من نهاية”.

أنواع عديدة من الحكايات. حكايات من العالم اليومي في تقاطعه مع الغرائبي مثل “8 على 10″، وحكايات في عالم مختلف تماماً تسميه جيلان “أرض أخرى” فيه نجد مثلاً ذات الشعر الغجري. “سيتحدث كل من بالقرية عن غضب شديد قد ألم بها. يبدأ الحديث همساً ثم سرعان ما يستشري في المكان كله. تبدأ المحاصيل في التآكل. يزداد الجائعون في كل مكان. تتحول القرية شيئاً فشيئاً لمقابر من كثرة النعيق وسحابة الغربان السوداء المنبعثة دوماً في السماء“.

كأن عدم وجود الحُب يعني الفناء الذاتي، غضب الطبيعة، غضب الأم، الذي قد يدفع حتى الابن لأن يحل محل الأب جسدياً في قصة “واجب”. هناك لعب مع الأساطير كما تحكي في “صلوات لديونيسيوس” و”مولد أول لديونسيوس”، وأيضاً تعاطي مع الجانب التاريخي من الإسكندرية التي تنتمي روحياً لها هذه المجموعة، كما تنتمي لها جيلان نفسها. في القسم الأخير من الكتاب نقرأ السوريالية في سخريتها القصوى من حالة الحُب المطروح كحل ومنجى على طول المجموعة كلها، مرة أخرى مع “8 من 10” نتراوح بين حالة الممارسة الحميمة بين حبيب وحبيبة في الفراش بينما تصدمنا الفنانة فجأة بوجود أشخاص يُقيِّمون الفعل الجنسي، امرأة ورجل وطفل يصيح “مش لايقين … مش لايقين”، حالة الرقابة لا تكتفي بتقييم الفعل الجنسي، لكنها تمتد إلى نزعه عن نفسه، وتجريده من بدائيته في مقارنات عبثية بين النموذج الموجود ونماذج أخرى من المُخيلة الجمعية، في هذا الموضع أيضاً يُواجه الحُب بسلطة مجتمع استهلاكي، يجعل الرجل يرحل مُسرعاً وخائفاً ويُنهي المرأة وحيدة وخائبة، كأنه يرتاح حين يُقنعنا أنه لا يوجد شيء اسمه حُب، فقط تكنيك ومادة وفناء، تكتب جيلان هذه السخرية ببساطة واشتعال، مُستَمَدّة ربما من فكرة البحر انسيابيته، دون تَحَسُّسات المدينة المغلقة التي يعيش داخل سجونها بالاختيار، كثيرُ من الناس.

مقالات من نفس القسم