“كأنها القيامة”.. فن إعادة تشكيل العالم والتحايل على الموت

كأنها القيامة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الكفراوي

حين يقوم الشعر بدوره الرئيس في إعادة تشكيل العالم، عبر إحساس شفاف وذهن صاف قادر على الاستبصار ورؤية ما وراء الموجودات، وخلق حياة أخرى أو عوالم بديلة للمفردات العادية الموجودة بالفعل، يصبح الشعر بطلا في حد ذاته وتصبح الصور والأخيلة والمجازات بمثابة جسر روحي يصل بين الشعر وبين المتلقي، ويحرضه على الدخول في هذه العوالم متخففا من وطأة العالم المادي.

في ديوان “كأنها القيامة” الصادر مؤخرا عن دار الأدهم، تنعكس وظيفة الشعر كعالم بديل في أكثر من ملمح، استطاعت الشاعرة نهاد ذكي أن تستخدم الخيال والمجاز ممزوجا بمفردات الحياة اليومية لتخلق عالما متفردا ملؤه الدهشة والذهول.

ربما تبدو الحدة والعنف الكامنة في مشاهد القطط التي تأكل البشر، بمثابة مجاز أو نوع من التخييل الذي يعاكس ويعاند التصورات الطبيعية عن القطط بوصفها كائنات أليفة محبوبة للكثيرين، لكن في الواقع هذه القطط تفعل ذلك، تأكل البشر أحياء وأموات كنوع من الحميمية، كنوع من الحب الذي يريد أن يتجلى في التوحد. ففي قصيدة “القطط أكلت جدي” تقول: “بالأمس حلمت أن قططي الإناث/ انجبت الكثير من الهررة الصغيرة/ رأيتها تلتف جميعا حول الجسد الميت لجدي/ ثم بدأت تنهش لحم وجهه.”  وفي قصيدة أخرى بعنوان جنيني في المزهرية تأتي هذه الصورة أيضا: “أما الأب/ فقد أكلته قطتي في العشاء.” 

ويظل الهوس بالقطط يلعب دورا رئيسيا على طول الديوان باعتبارها العلامات المركزية التي تتكئ عليها الشاعرة لتضاعف من التخييل أو لتربط الواقع بالمجاز، أو لتعبر عن التوحد مع هذا الكائن الأليف الذي يمكن أن يتحول إلى وسيلة للعب أو تعبيرا عن الحميمية، وفي وقت ما وسيلة للانتقام.

وتأتي الصور المبتكرة التي تحمل أبعادا شاعرية في غاية التفرد والجمال في قصيدة مثل جنيني في المزهرية “آلام وضع / جسد يتلوى/ أضع جنيني المشوه في المزهرية/ ومعه ملعقة سكر وبعض الماء/ حتى ينبت ويزهر.”

هذه الصورة المجازية التي تجعل من الجنين صورة نباتية تحتاج إلى مقادير خاصة هي الماء والسكر لتنمو، تعبر عن مدى الحب لهذه العملية، عملية صناعة طفل، أو على الأقل علاجه من التشوه الجنيني، ويبدو أن الشاعرة في لحظة أخرى ترفض فعل الولادة نفسه، وبطريقة لا تخلو من نزعة فلسفية لها أبعاد تشاؤمية، ربما من تأثير الحزن والأسى على التشوه الجنيني الوارد دون إرادة البشر، فتقول في قصيدة أخرى “لا أريد أذيالا لخيبتي/ لا أريد لرحمي أن تتورط في الخلق/ كما تتورط الآلهة.”

ولحالة الرفض هذه امتداد يعيد تشكيل الموت أو الفناء في صورة أخرى أكثر بهجة وحميمية، حين تتحول النطف، صانعة الأجنة إلى زهور وورود في قصيدة “أتذوق طعمي” إذ تقول: “أطلقت اسما على كل نطفة أجهضتها/ نثرتها في تربة مالحة/ تركتها للطبيعة/ بذور خلق/ نزفت وتفتقت / زهورا وورودا.”

هنا يأتي ملمح إعادة تشكيل أو إعادة تدوير الموت جليا من خلال صنع حياة أخرى من الحيوات الميتة أو المنتهية بفعل فاعل، ويتصاعد هذا الملمح في قصائد أخرى مثل القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها “كأنها القيامة” إذ تقول: “في منامي/ اعتدت أن أرى أجساد موتى تطرح ثمارا/ ناضجة جاهزة للقضم./ هياكل عظمية أنبتت أشجارا / كأنها القيامة.”

وفي قصيدة “تأكل لحم أخيك” تقول: “ما من موتى هنا / كل العظام أزهرت/ حتى نبتت على البحر الحديقة.” وكأنها إعادة للصورة نفسها أو للفكرة نفسها ولكن في بعد مكاني آخر، لكن يظل إعادة تدوير الموت وتوليد عوالم جديدة من عالم الموتى من الصور اللافتة في هذا الديوان.

يأتي بعد ذلك الشعور بالوحدة الذي قد يصل إلى حد التوحد في بعض الأحيان نتيجة الاستكانة والاستسلام للذات باعتبارها المعادل الموضوعي لفكرة الأمان والطمأنينة والضمان الوحيد المؤقت لتفادي شرور العالم، حتى في المحبة والمشاعر العاطفية تبدو الوحدة كمثال ونموذج حميم في القصائد ” الآن / لم يعد العناق بحاجة إلى شخصين.” هكذا ببساطة تبدو الوحدة أو التوحد كحل عاطفي. هذا التوحد قد يصل إلى ذروة حسية تغيب العقل في قصيدة أخرى “قبلة أخرى وأصاب بالخرف/ هل تخدرت عيناك بالنظر مثل عيني؟” في هذه الصورة البديعة يبدو التوحد هنا مع الفعل المادي القبلة وكأنه علامة خطيرة يمكن أن تودي إلى مهالك ذهنية.

الفلسفة هي جزء أصيل في القصائد أيضا بداية من فلسفة الموت ثم فلسفة الوحدة التي تظهر في أكثر من موضع، ثم فلسفة الحياة والوجود بشكل عام، ففي إحد القصائد تتحدث عن الين واليانج و فلسفة الثنائية القطبية في الوجود التي تمثل الخير والشر/ الأبيض والأسود، وما إلى ذلك من متناقضات لا يمكن حصرها.

وفي نهاية الديوان تتجلى الفلسفة في جمل مباشرة بعض الشئ لكنها تحمل دلالات قوية “الحياة حدث عارض بين عدمين/ مؤلمة مثل بتر إصبع.”

يعتبر هذا الديوان بمثابة شهادة ميلاد لشاعرة تحمل الكثير من الموهبة والإحساس باللغة وتمتلئ بالخيال، والرغبة في تشكيل عوالم جديدة عبر الشعر.  

 

مقالات من نفس القسم