حسني حسن
وفي صباح اليوم الثالث، راح قيافا يقطع شوارع أورشليم، المستيقظة تواً من نومها الثقيل الطويل، على عجل، قاصداً المقبرة، التي تحدثت الأقاويل المتطايرة في سماء المدينة وأزقتها الضيقة، عن فراغها العجائبي من جثمان ساكنها الأخير. مر بالجلجثة، المشرفة على قلب البلد القديم كغيمة سوداء عاقر، مسرعاً ومتحاشياً النظر باتجاه تلك البقعة، التي ترجعت في أجوائها ذات مرة، صرخة المحكوم الأخيرة، التي تعالت وكأنما لتحاكم السماء الصامتة اللا مبالية، فلم يستوقفه أي شئ غير عادي هناك. جاب الشوارع والأسواق، وعرج على الهيكل المقدس، وتوقف لثوانٍ يتابع نشاط الصيارفة والكهنة والفريسيين وبائعي الأضحيات المقدسة والبخور والطيب والعطور وحوانيت الخز والحرير وألبسة النساء الثمينة وأساورهن والأقراط، قبل أن يهز رأسه برضا، وربما بقليل من الاندهاش والحيرة. حدث نفسه مقرراً أن كل شئ على حاله، في هذا العالم المعقول المضطرب، تماماً كما تركه ليلة أمس، تماماً كما خلقه الرب وغادره عند مساء اليوم السادس للتكوين. ابتسم وهو يفكر بالعودة، من فوره، إلى الدار لتناول وجبة غداء دسمة تعوضه عن صيام أمسٍ السبت.
– بطبيعة الحال، أيها الحبر الأعظم، فإن كل شئ على حاله، تماماً كما أردناه وصنعناه، وهل ساورك الشك، للحظة، بأن الأمور يمكنها أن تجري على خلاف إرادتنا وصنعنا؟
تطلع قيافا، برهبة، إلى وجه العابر المظلم، فيما راح السؤال، المتهكم المستنكر، يدوِم داخل عقله، قبل أن يجرؤ على الرد:
– إنهم يتحدثون عن المعجزة أيها السيد.
– دعهم يتحدثون يا كبير الكهنة، دعهم يتحدثون، منذ وضع السيد في أفواههم ألسنة وهم يتحدثون، فهل بدَلت أحاديثهم، مرَة، شيئاً مما أرادته الإرادة؟
نضح صوت العابر الداكن بما هو أبعد من الاستنكار الآن؛ بالغضب المكظوم، واستدار، بغتة، عن محدثه، معطياً إياه ظهره من دون أن يودعه، ثم فحَ:
– فلتغرقهم أقاويل المعجزات والثرثرات في أوحال انتظار أبدي، ولتبقَ أنت قابضاً على دفة قارب السر يا قيافا، هل تفهم؟
همَ الكاهن بالإجابة بتسليم منتشٍ متلذذ ومرتعد، لولا أنه ما عاد قادراً، بعد، لا على رؤية العابر، ولا على التيقن من أن فرقعة الضحكة المدوية، التي يسمعها، تخصه هو بالذات. للحظة استطالت في الزمن كألفين من السنين، أخذت السحابات السود تتناسل في السماء العالية كأوشحة لا نهائية الغزول، ينسجها عنكبوت عملاق لا محدود الأبعاد، لتقع الشمس في شباكها، وتنطفئ.
– ها قد انطفأت شمعة الرب، وسقطت أورشليم في وهدة الليل الأبدي!
أدرك قيافا أن الرجوع إلى الدار قد بات خياره الوحيد، وسار على دربه كمن يحلم بأنه يحلم ويعاود النوم.