هذه العلاقة بالأب، بحياته وموته وأحلامه المهدرة، تقدمها ببساطة الرواية القصيرة قلم فحم، في كتاب يضم روايتين صغيرتين، لوائل سعيد، صدر قبل شهور، في سلسلة حروف عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في كتاب حمل عنوان الرواية الأولى: حكاية العمر كله. وكان من السهل في رأيي أن تضم العملين رواية واحدة، فالمنبع واحد وهو عالم ذلك المبدع الشاب الذي تطحنه الظروف وترطب فؤاده نسائم الحب في الحكاية الأولى، ويتتبع في الثانية تفاصيل متناثرة من سيرة والده الراحل. لكن وائل اختار أن يفصلهما، في شكل النوفيلا أو الرواية القصيرة الذي يلعب على الحدود ما بين القصة الطويلة والرواية، فينتفع – إذا ما كُتب بإحكام وهدوء – بخير ما في النوعين، التكثيف والقدرة على التأمل، إحكام الشكل واكتشاف ملامح عالم ما، ولو كان محدوداً للغاية.
اسم وائل سعيد، قد يبدو غريبًا على كثيرين، لكنه معرفة قديمة، لهذا لا أستطيع أن أدّعي حياداً نحو كتابته، وشهادتي فيها تجرحها ذكريات سنوات طويلة، كنا خلالها جزءاً من عصابة واحدة، عصابة بالمعنى المجازي والحقيقي، نشارك في غارات دائمة على الندوات والمقاهي والأماكن الثقافية والمكتبات العامة والخاصة، ونستهلك الكتب والنيكوتين وأشياء أخرى في نهمٍ مجنون، حتى تفرقت السبل كالعادة، وانتهى مآل بعض أعضاء تلك العصابة إلى مصائر عجيبة، لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر، وكان وائل ممن نجوا من مذبحة الأيام، لكن الظروف ابتلعته لسنوات قبل أن يعود ليفتش في حقيبته ويستخرج قلم الفحم الخاص به، ويكتب وينشر، فعسى ألَّا ننتظر أكثر من عشر سنوات أخرى قبل أن نقرأ له كتاباً جديداً، سيكون هو الثالث بعد روايتيه هاتين، ومجموعة قصصية أولى بعنوان كالعادة تحدث كل الأشياء، صدرت في طبعة محدودة عن قصور الثقافة عام 1999 على ما أذكر، وفيها كان وائل حريصاً على المشهدية والتقاط خبرات الحياة اليومية البسيطة، وهو ما يؤكد عليه في كتابه هذا، فهو لا يراكم بقدر ما ينتقي، لا يرسم حكاية محكمة بقدر ما يجمع شظايا وكسرات، تاركاً للقارئ مهمة التوصيل بين النقاط، مستفيداً من تجربة العم إبراهيم أصلان بالطبع، وهو يهديه الرواية الثانية إلى جانب والده، عم سعيد. غير أن تقطير العالم لصالح الفن لم يواكبه للأسف تقطير موازٍ للغة والأسلوب على طريقة أصلان، فمالَ السرد أحياناً إلى التساهل وارتبكت الصياغة بين الفصحى والعامية واحتارت النبرة بين الشجن والسخرية الفجة دون منطق حاكم. فإذا كانت عين وائل سعيد ما زالت قادرة على التقاط جواهر نادرة من بين ركام تجارب الحياة اليومية فإن لياقته كلاعب بحاجة إلى معسكر تدريب طويل حتى تجاري جمال ما ينتقيه من لحظات ومشاهد، معسكر لا ينقطع من جديد لسنوات أو شهور، حتى لا ينسى قلمه الفحم في قعر حقيبة أوراقه، مثل العم سعيد، بل يظل يستخدمه لآخر خطٍ فيه، مثل العم أصلان.