هذا يعني نحن نقول لأننا نرفض.. نقول لنعلن رفضنا.. نكتب لأننا صمتنا طويلا حتى بلغ بنا الهرم.. ولم يعد بوسعنا احتمال السكوت، ولا بوسعهم اجبارنا على السكوت. السكوت العربي ليس سعادة، ولا هو تعبير عن رضا -حسب القاعدة الفقهية-. السكوت هنا اجتماع مع الذات لمداولة أمر مشكوك فيه على غاية من الأهمية. السكوت في أبسط تعبيراته هو رفض ضمني. الرفض أو التمرد ليس ظاهرة تتولد في النص وانما هي تتصل بحالة أعمق وأوسع، تتصل بعلاقة الشخص بالبيئة والمحيط عموما. والنص كموقف تاريخي من العالم، هو صورة لعلاقة الذات بالعالم. وفي هذا الاطار يمكن فهم أو قراءة نصوص (حارس الفنار الأخير)، العنوان ذي المدلول- نفسفكري- الجامع. ولا نتساءل، أو نسأل الشاعر عن الكلمة الأخيرة في العنوان، ولماذا هو الأخير، وكأننا أمام نبوءات فوكاياما عن نهاية التاريخ او انذارات الانجيليين الملحة حول دنوّ نهاية العالم. أنها حالة اليأس وبلوغ الحافة.
تنماز لغة عزمي عبد الوهاب بالهدوء، بالعفوية، بالعمق. ثلاث صفات نقضية ليس من السهل التوفر عليها في ثقافة ما بعد الحداثة. وهذا يصنف الشاعر لمرحلة سابقة في أصولها وسماتها الفكرية والنفسية عن ثقافة الألفية الثالثة. ولعلّ هذا التشخيص يلقي ضوءا على جانب من خلفية الرفض الكامن في نصوصه، المعبر عن اشكالية اغترابية وجودية، أكثر منها موقفا عارضا من حدث طارئ. لكن الشاعر، في موقفه الوجودي من العالم لا يميل لنصوص فكرية مجردة، ولا يتكئ على رموز تراثية محلية أو أجنبية وانما ينتقي رموزه الطازجة من واقع طارئ حديث، ويلقي عليها بلبوسه النفسية والفكرية. هذا المزج المبدع بين نمطين يعودان لمرحلتين على درجة من التناقض والاشكالية تسجل للشاعر، وهو في أبهة نص هادئ،يتظاهر بالعفوية. قصيدة عبد الوهاب هي خلاصة لكلّ استحالات ظاهرة الحداثة الشعرية العربية منذ الستينيات حتى اليوم، تجمع في أجوائها بين القصيدة اليومية وقصيدة النثر، الحداثة وما بعد الحداثة، المصرح والملمح، الغموض والمباشرة، دون أن تسقط في خانة العادية والاستهلاك.
دخولنا في الألفية الثالثة جاء على غرار قفزة – غاغارين- على سطح القمر، ولم يكن تطورا تاريخيا متدرّجا بوعي واناة وتفهّم. وهذا ما يجعل أنصار ما بعد الحداثة، يبالغون في دعاوى الدمقراطية والتحديث الى حدّ المزاودة على الأمريكان أنفسهم. ومن هذا المنظور يتولى النص فضح الازدواجية البنيوية التي يعيشها واقعنا اليوم. ظاهرة التناقض الكائن بين الشكل والمضمون، بين القول والفعل، بين ما نريد وما لا نريد، بين مظاهر الحرية واستلاب الارادة، بين الفوضى واسقاط النظام، مسوغا لدخول المستقبل.
الحياة..السؤال..الضرورة والجدوى، هي بؤرة المنظور الفكري للديوان. الحياة بخصائصها الاساسية المقيتة: الجنس والطعام/ العائلة والعمل/ الكرامة والعالم..هل الوجود كقيمة يستحق تبريره بالكذب والتزوير؟ وهل الحياة كظاهرة تستحق كلّ هذه السجون والجيوش والموت..هل الحرية والارادة تستحق كلّ هذه الأنظمة والتقاليد والوصايا المقدسة لتقزيم العقل وتدجين الكائن وحفظه ذخرا للعبودية والاستبداد، حتى في أبهى عصور العولمة والفوضى التي تلتقي بالهمجية من الباب الخلفي. حارس الفنار الأخير تحمل أسئلة ما بعد الحداثة إلى حافة المواجهة وامتحان القواعد والأصول، وكأنه يزيح غشاوة الغبار الاعلامي ويقول لأبناء العولمة: أنظروا.. انها حكاية قديمة، في لبوس مزوق، تعيد نفسها في زمن أكثر سذاجة وسطحية من منجزات القرن التاسع عشر.. والتاريخ ليس غير متوالية تكرارية لجدلية الجوع والجنس والعبودية والاستبداد. وظيفة الأنظمة والعولمة هي عزل الانسان عن كينونته ونقطة الاقتراب ليكون ذاته السامية، خارج وصايا المجتمع والدين والنظام والامبريالية. وفي لعبة الكشف تلك، يختار الشاعر البدء من الثيمة الأكثر حساسية وخصوصة.. خروجا للعام والعالم.
في قصيدة – ثرثرة عن حفل زفاف لا تعني أحدا سواها- فتاة، تذهب للزواج بكل ما يقتضي من رتوش زواج تقليدي يقوم على قواعد راسخة، من العفة والعذرية و-لم يمسسني بشر-. هذه الصورة الافتراضية المزعومة لفتاة الخدر، مطلوب منها الامتداد والتحقق في عصر ما بعد الحداثة وشبكات التواصل الاجتماعي والالكتروني الغربية. الحداثة وما بعدها تنتمي إلى بيئة يشكل الانسان الفرد، والصدق والشفافية ركنين مقدسين فيها إلى جانب نظام مدني علماني تتكامل فيه الدولة مع ثقافة المجتمع. بينما يختفي أول ركنين من ذلك في واقعنا، ويتراجع الركن الثالث الى حالة صورية مشوّهة. وجاء انتقاء الشاعر لثيمة الزواج العذراوي حاذقا وجارحا في آن. فالفتاة- هنا لا بدّ لها من ارتداء قناع- يناسب شروط ومتطلبات المشهد الاجتماعي العرفي. وعدم الانخداع بشعارات الحداثة وما بعدها.
لكِ وجهٌ جديدٌ
ويدان ما استراحتا في كفًّ غريبة
عن العائلة،
كما أن الريجيم القاسي الذي اتبعتِه منذ شهور
يجعلكِ أجمل..
ليس الفتاة بشخصها فحسب، وانما عائلتها ومجتمعها المحلي، سوف يصرّ على تمثل البراءة المطلقة لتمرير الصفقة. هكذا يشعر الطرفان بالامتنان لنعمة الكذب، الذي يحفظ كرامة كل طرف وكبرياءه الخارجي. ويحذق الشاعر في منح المشهد حرارة الانفعال والعفوية عندما يقدمها في طابع داتي، يستطرد معه في التلميح لجملة تفاصيل، وظيفتها كشف حجم الزيف في الصورة، وانتاج صورتين جديدتين، زوج مخدوع، وحبيب مغدور. وبحكم واقع الانفعال، تنسج خيوط إدانة شخصية للفتاة، من المفترض توجيهها لثقافة المجتمع المنغلق على نفسه خارج ديناميكية الزمن..
اذهبي الآن إلى الحفل
بجسد مُهَيّأ للطعن
أنت سعيدة طبعا.
الحفلة هي البداية..كل بداية في حياتنا هي حفلة..والحفلة هنا لها مدلول التفاؤل، صندوق الفرح والسعادة المحمول على كتف الغد.الحفلة هي شهادة حسن النية والسذاجة المفرطة حدّ الذوبان وانمحاء الذات. الحفلة رجاء ضمني لدفن الماضي وتدشين صفحة جديدة من دفتر جديد.الحفلة هي دالة طقس تطهيري تبلغ فيه الذات عرجونها الأخير الذي يرفعها لمصاف الطفولة الغرة والولادة الجديدة.
لك وجه جديد..
ويدان بكر..أصابعها
ويختار الشاعر فكرة الريجيم كعلامة لشكل جديد للجسد منقطع عن الماضي. كل شيء ينبغي أن يكون جديدا، والماضي يموت وينتهي فورا. الحفلة ليست مجرد ثياب جديدة، ووجوه جديدة، ولكن جسد جديد. جسد جرى تهيئته وتطهيره وتغييره على مدى شهور، وبأيدي خبيرة..استعدادا لتلك الليلة الكبيرة.. الحفلة.. باب مستقبل علاء الدين ومصباحه السحري. في سفر أستير وصف لطقوس اعداد الفتاة للزواج ، حيث تحصل على نصيبها من العطور والأطعمة، ويخصص لخدمتها سبع فتيات من قصر الملك، ويجري نقلها مع وصيفاتها إلى أفضل مكان في جناح النساء، هناك حيث تقضي أثني عشر شهرا، حسب سنّة النساء. تنفق ستة أشهر منها في التعطر بزيت المرّ، وستة أشهر بالأطياب والعطور، وهكذا تكمل أيام تعطّرهن/ سفر استير2: 9، 12- بتصرف.
ان الحفل، مهما كان، فهو يسجل نقلة في حياة المرء، تنتقل الفتاة من سلطة الاهل إلى بيت الزوجية، دولة جديدة ونظام حكم مختلف، تستطيع فيه العروس ممارسة سلطات الملك، والتخلص من سلطات الأبوين التقليدية..
يكفي أنه خلصكِ من النكات البذيئة في الهاتف،
والبيتزا، وشجار أمّكِ المتواصل،
والمشاوير الأسبوعية من “الدقي” إلى “الهيلتون“
انتهينا
لكن الأمر، الذي جرى التحضير والاعداد له بجهد ملحوظ من قبل الأهل والحاشية، يحتاج ذكاء نوعيا من الفتاة نفسها. هنا تبدأ مهارة الفتاة وحذقها الفني في المداراة والمداورة والدوران، فتتحكم بالعريس/ الغفلة حسب تفاصيلها الاستراتيجية..
ولكن
إذا تعمد أن يحيط خصرك بذراعيه
وأنت ترقصين معه كفراشةٍ سكرانةٍ
أديري وجهَكِ بعيداً
في عيون جاءت لتشهد الذبيحة..
وارتبكي أكثر
بحيث تبدو شفتك العليا بالتحديد
وكأنها أُميةٌ..
امنحي وجهكِ قليلا من الحمرة الخجول
وأنتِ تنظرين إلى أسفل
هذا الوضعُ يتناسب مع غازٍ
فتح مدينة تستعصي على الحرب)
دعيه يتباهى بذكورته أمام الأصدقاء
في المقاهي والبارات المعتمة
لا تقولي: فشلتُ في محاولة انتحارٍ أخيرةٍ
لأنني أحبكَ.. لا أحبكَ
قولي: “لم يمسسني بشرٌ“
هنا بالضبط تكتمل اللعبة).
يرسم الشاعر هنا سيناريو كاملا لحفلة الزواج- العرس-، ذلك السيناريو العرفي المتوارث حد الاهتراء، ما زال ينبغي له ان يحتفظ ببراءته وطرافته وبكارته الأولى.. باعتباره العرس الأول في التاريخ.. ولذة التفاحة الأولى منذ مغادرة الفردوس. ان مفهوم – ثرثرة- في العنوان هو إحالة على الكلام، ولابد أن نص سيناريو الحفل، يتضمن ما يكفي من كلمات عفوية تحمل طابع – ثرثرة غر مقصودة- تستثير به الرؤوس والأعين، ويتداخل فيه الخيط الأسود والأحمر.. فالعفوية والتلقائية والسذاجة، عناصر ضرورية لتسويغ المؤامرة الحتمية..
وقولي له: يا شبيه أبي
هنا أيضا سيصدق أنكِ تحبينه..
انتهينا الآن
تعثَّري في فستانكِ الأبيض الطويل
كامرأة تدخل المكان الغلط
ولا تبكي.. كأن البكاءَ علامة فرح..
وإذا تذكرتِ شقةً دخلناها معا
حاولي إقناعه بأنك خائفة جدا
إلى أن تخرج من رأسك أفكارٌ تعرفينها،
وملابس سقطتْ قطعةً قطعةً على الأرض،
ووسائد أغمضتِ عينيْكِ عليها من تعب اللذة..
عند هذه اللحظة بالذات
اصرخي: أُحبكَ
)من فضلكِ.. بصوت عالٍ)
ريثما تستعيدي يدين قبضتِ بهما
على شباك سرير عابرٍ للحزن..
وبسادية مدرّبةٍ على الحب
اصرخي –أرجوكِ– بشكل مختلفٍ..
هل فشلتْ تلك المحاولاتُ
في إزالة العناكب التي بصقتْ ماءها فوق ظهرك؟!
لا تخطئي في اسمه إذنْ
وأنت تعدين أسنانه المغروزة في كتفيك..
يمكنك أن تحكي له عن البحر الذي يلازم أحلامكِ
وعمال “مصنع البيرة” الذين يتلصصون على سريرك ليلا..
اجعليه يتهمكِ بالبرود من وقت لآخر
وفي اللحظة المناسبة
تأكدي أنه سيفهم:
الزواج هنا حالة ذهنية نفسية مثل القصيدة.. الفارق ان القصيدة تتلبس الشاعر/ القارئ، أما الزواج فأن العروس/ العريس تتلبسه وتتقمصه من خلال ادعاء البراءة والطفولة والحبّ الأول والملامسة الأولى. الزواج عملية تزوير اجتماعي لأوراق لا بد منها لديمومة الكذب. والشعر حالة/ حاجة لابدّ منها لتزوير/ تزويق قباحة العالم.. فالشعر أيضا وهو يعتمل الطفولة، يعطي انطباعا.. أنه القصيدة الأولى والاكتشاف الأول في التاريخ. وظيفة المراة الناجحة، هي وظيفة البرشوم النافذ الصلاحية.. في جعل الرجل يصدق الكذبة دائما، ويمضي باللعبة الى نهايتها..
تأكدي أنه سيفهم:
هو الوحيد الذي اصطاد الكنزَ،
وشرودك المفاجئ
لم يكن إلا خوفا من تجربةٍ
تتعطل فيها القطةُ عن المواء
بعد ليلة من الشبق..
وعندما تنجح اللعبة، وهي مضمونة النجاح منذ البدء بشهادة المخرج، تنتهي الحفلة/ المسرحية/ الفيلم. ويعود الجمهور الى منازلهم، ومن بينهم، ذلك العجوز.. العاشق..الذي ارغم على معايشة اللعبة من الماقبل حتى المابعد.
هل تذكرين؟
منذ عامين
بعثتْ قطة بموائها إلى هاتف رجلٍ عجوزٍ
كان يتدثر بشتائه متكئاً على عزلته..
أشارت إلى شعرها القصير
وقالت: سأظل بجانبك
إلى أن يصل الشعر إلى رِدْفَيّ
فاهنأ بفاكهتي
وسريعا أعادته إلى شتائه الموحل
لأنها لا تريدُ أن تكون خائنة!
ما جدوى هذا؟
نحن انتهينا
والذاكرةُ التي رَبيْتِها على النسيان
لا تجيد الالتفات إلى الوراء
ستكونين زوجة صالحة بالتأكيد
لأنك قادرة على كَشْط عامين من الحب والجنس
تحت أول “دش” باردٍ في الطريق
فاذهبي الآن إلى العرس
بجسدٍ نظيفٍ من اللهاث..
ولا تبالي بمن سالت رغبته تحت قدميك
أنتِ الآن أجمل.. وأجمل
والرجلُ العجوزُ يجلس جنب الهاتف مكتئبا
في انتظار قطة تموء له
والفارس الذي لا يشبه أباكِ
صدَّق أنه صورة طبق الأصل من أبيك،
وأنكِ خائفةٌ من سكين الذبح
وزغاريد الأهل في الصباح
هنا تُطوى صفحة
وتبدأ أخرى
هنا تبدأ إيقاعات الكَذَبة
صدقيني كلهم يكذبون
وأنتِ وحدكِ الحقيقة
فابتسمي للكاميرا!
في هذه القصيدة/ السيناريو، تنقلب الصورة الاجتماعية التقليدية للفتاة الضحية – المرأة الضعيفة- لظروفها الاجتماعية وتقاليد المجتمع الجائرة، إلى الصورة العكسية تماما، ويظهر المجتمع الخارجي هو المخدوع رغما عنه.فحسب الفهم الجديد للمجتمع، يتبادل الجميع الأدوار بجدارة، وحسب حركة الظروف. جلاد اليوم ضحية الغد، وضحية اليوم هو جلاد الغد، وربما يقدم هذا مفهوما جديدا للعدالة. فالحياة، لا تتحدد بما يجري على أرض الواقع، وانما بطريقة فهم وتفسير الواقع. المفاهيم تتحرك، والأدوار تتحرك، والمواقع تتبادل.
العروس البكر الكاعب البريئة هي مجرد صورة افتراضية لتمثيل قناعة اجتماعية مفترضة، لكن العروس الممثلة الحاذقة على اقناع العريس، تدرك ايضا أن عريسها سيبذل جهده لتزوير ماضيه وادعاء البراءة. والشيخ المغدور، كان غادرا في نفس الوقت أو غيره، وهو ينتظر – مواء جديدا-. فهو مربي قطط عتيد، شيء مثل تاجر العبيد اذي لا يكف عن اصطياد ضحاياه وبيعهم غفلا عنهم، حسب قصة الفيلم الانجليزي الذي حاز بجائزة قبل عامين. فعلى حين غرة، شاب صغير – في الحادية عشر من عمره، يتلقى تذكرة مجانية من صديقه بالسفر الى الولايات المتحدة، دون أن يعترف له الصاحب انه باعه لتجار أميركان. هذا يعني أن حالة سيولة القيم والمبادئ، ليست قاصرة على زمن معين يسمونه – بوست مودرن. وأن في زمن الحداثة والمجتمعات التقليدية، ثمة مظاهر، تجري خفاء او علنا، رغما عن الجميع.
فكرة القناع الذي تخفي وراءه العروس حقيقتها، تجعل القصيدة كلها مجرد قناع يستخدمه الشاعر للتعبير عن حالة اجتماعية أوسع وأبعد. وذلك ما يتكشف في القصيدة التالية –ربما- في الديوان. فالحفل الذي ينقل الفتاة من وضع اجتماعي لوضع آخر، يمثل حفلا آخر جرى تقديمه على مسرح ميدان التحرير في القاهرة بمثابة تذكرة انتقال من وضع سياسي إلى وضع بديل. فتغيير النظام هو هدف مشترك له سياق اجتماعي (ثرثرة لا نخص أحدا سواها)، وسياق سياسي (ربما)، وسياق اقتصادي (شيوعيين..كنا).
ان مجموعة (حارس الفنار الأخير) أكثر ارتباطا بتبدلات الأوضاع العامة، منها بوضع شخصي محدد. ففي قصيدة – ربما – تتحول المراة في قصيدة – ثرثرة- إلى كناية عن مدلول آخر، لعل القاسم المشترك بين المشهدين، هو عنصر الشباب – الضحية-، ضحية النظام السياسي، وضحية النظام الاجتماعي
أبانا الذي.. في الشوارع
منحت امرأةً واحدة كل هذا الجمال
ومنحتنا وحدَنا كل هذا القبح
فانكشفنا كصرخةِ يُتْمٍ
فوق قبرٍ فقير
قلت لنا: إنها امرأةٌ
تدخل الحياة بقليل من البهجةِ
فلا تقربوا
واقتربنا
كنا خارجين من الهواء النظيف
صوبَ الأحياء العطنة،
ظهرنا مكشوف كالريح
وقطارنا هارب بجريمةٍ كاملةٍ
يعيش الشباب حالة انتقال من حياة الدراسة إلى حياة العمل، من العزوبية إلى العائلة.ولكنه في ظل الفساد والفوضى لا يقدر على الامساك بأي منهما، فلا العمل متيسر، ولا الشيء الآخر. فثورة الشباب العربي ليست ضد نظام سياسي أو اقتصادي، وانما نظام اجتماعي يدور حول نفسه. الشباب، المحمل باحلام وتطلعات رومانسية، لا يفتأ يتعرض للصدمة والاحباط. هذا اليأس يجعل الشاعر يحمل نداءه للمافوق.. للسماء.. مستعيرا نداء أبانا الذي.. من الصلاة الشفاعية المسيحية المعروفة..فكما أن الأب يكفل الاهتمام بأبنائه، كذلك السماء عليها التكفل برعاية الأرض.. ويلحظ وجود -قطع- في الشطر الأول -على طريقة القطع التلفزي أو السينمائي- لدمج جملتين..
أبانا الذي (في السموات.. أبا الجمع) الذي في الشوارع
من الممكن تأويل صورة المراة المركزة هنا مسافة أبعد من الواقع الطارئ.. إلى مديات اعمق، تتجاوز الأزمة الاجتماعية والسياسية، إلى أزمة الانسان الوجودية، واشكالية شقائه الأرضي الذي احتجب زرادشت لأجله سبع سنوات على جبل في البرية دون طائل.
وكما انتقل باللائمة من المجتمع نحو المرأة في النص السابق، فهو يميل بالسؤال عن اتجاهه الرئيس، ليلقي به على عاتق المرأة أيضا، باعتبارها هي الغاوية.(الانسان مولود المرأة). وبالتالي، لولاها لما كان الانسان ولا كان العذاب. وفي قصيدة (الخروج من الجنة) لزاهر الجيزاني، تبدو لعبة الثمرة تكتيكا من أجل الحصول على الحرية والتمتع بالحياة التي لا حدود لها. وفي كلتا القصيدتين تبقى المرأة – حمالة الحطب- على مدى التاريخ.
منحتنا وحدَنا كل هذا القبح / فانكشفنا كصرخةِ يُتْمٍ / فوق قبرٍ فقير..
بنصل سكين يجرد الشاعر ألمه: قبح، يتم، قبر فقير. كاشفا دالة الشعور بالنقص والحاجة التي لا تتكامل إلا في حضن/ رحم الأنثى التي وصفتها الميثولوجيا القديمة بالقبر الذي ينتهي فيه الانسان. القبر كناية عن الرحم/ الأرض المأخوذ منها جسد. هل الأنثى هي صورة عذاب الرجل أم سعادته، هل هي جنته أو جحيمه حسب وصف توفيق الحكيم، أم هي كلاهما. موضوع المرأة يبقى حاضرا، بأبعاده الوجودية والاجتماعية والنفسية، في مجموعة (حارس الفنار الأخير)، وسوف يتكرر بمضامين واستحالات متعددة.
………………..
* كاتب عراقى مقيم بالنمسا