محمد فيض خالد
خطوة فوق البساط المخملي
هذا يومي الأول، حضرت مبكرا، وتلك عادة أصيلة لا يأتها غير أبناء الريف، فتكشف جغرافية المكان ما يشغلني مع البدايات، بدت المكاتب مقفرة، شاخصة كأشباح نائمة في ضوء خافت، هدوء تام يلف المكان غير حثيث قادم من فتحات التكييف، أزيز لطيف يضخ برودة تلسع جلدي، دقائق وتوافد عمال النظافة في زيهم البرتقالي المميز، وجوه أسيوية حفر السهر والكد فيها أخاديد مخيفة، عيونهم المحمرة، تتناثر في فوضى روائح التوابل الحريفة، مشتبكة بعرقهم الفج، ذلك الخليط المنفر آخذ بأنفاسي ما اشعرني بالاختناق، عمت الفوضى الوسط، اغرقت الأرض بسوائل التنظيف، تناوب العمال جلي البلاط في همة ونشاط، بقسوة طغت روائح الكلور والفينيك، جعلت اقطع الممر ذهابا وإيابا في خطوات متئدة هربا منها، وقد دخلت نفسي ثانية عالم الوحشة، لا أفهم رطانة هؤلاء، استقرت جلستي في ركن بعيد، امتدت يدي نحو صحيفة قديمة، تشاغلت بمطالعتها علي اتخلص من هذا الهاجس، أثر الهواء البارد الممتلئ بالخمول في جسدي، بقيت على صمتي الأول، لم ينقذني منه غير حضور الفراش، ألقى التحية في تودد بوجه باسم، في الخارج كانت الشمس قد طرحت شباك ضوئها على بساط الأرض لفت فيه البشر والحجر، حام الرجل من حولي، لكنه آثر في الأخير اختصار المسافة، هز رأسه الأشيب، قائلا في حماس: تشري شي؟، بعث سؤاله في قلبي يقينا، أحسست بالراحة تسري بين جوانحي، فأنا الآن لا اشعر بالغربة، اقترب باشَّا واضعا كوب الشاي أمامي، آنست لحديثه المقتضب، اسمه محمد جاسم بنغالي، قدم البلاد منذ عشرين عاما، من راتبه الضئيل، يعول أمه العجوز، وأسرة مكونة من زوجة وخمسة أبناء، جميعا سلكوا طريقا للتعليم، يحلم باليوم الذي يستقر فيه يهنأ بداره التي بناها، ومزرعته، إلى الآن يشعر بالغربة، حتى بين جدران داره الذي التهم سنوات عمره، وافترس صحته، أبعده عن قريته وأنساه رفاق العمر، الذين تآكلوا بمرور الأيام، تندت عيناه بغلالة شفافة من الدمع، عاجلها بمندله ثم مضى، يتعزى الرجل بتلك الذكريات عزاء من قلت حيلته، يرضى منها بالقليل حتى لا تذهب نفسه حسرات، بدون إنذار أضيئت الأنوار، اختفى عمال النظافة، لم يمض طويلا حتى دبت الحركة في المكاتب، تمشت الضوضاء في الممرات، تقاطر الموظفون، تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة، نقاش محتدم في الرياضة وهمومها، موجات متصلة لأزيز آلات التصوير، نقر أصابع منتظم فوق لوحات مفاتيح الحواسب، من الوهلة الأولى تطالعك لوحة مصرية رسمت بحرفية .
يتحرك في الممر أربعيني محتقن الوجه، ارتسمت عليه سيما الجد، يتنقل بخطوات متزنة، تلعب شفتاه من غير كلام، يجر بقدميه نعلا ثقيلا، تعود أن يستفتح يومه بالوضوء، طقسا صباحيا تعوده و لزمة من لزمات المكان، اقبل السكرتير من بعيد، تقدم محييا في أدب، عاجلني محتفيا: نفطر اليوم سويا، اقتحم قلبي تيار الطمأنينة، لم افكر طويلا، بدأت اقضم السندوتش، جاء الفراش بكوب الشاي الساخن، هو الوحيد القادر على تبديد برودة الأجواء، ثوان قليلة، وعم الإدارة الهرج، مبكرا اعلن الحضور عن أنفسهم؛ بتلاوات قرآنية ذات نغم أخاذ، صرخت بها أجهزة الحاسب، تطالعك مسوح الملائكة في كل حجرة، تغلبك رائحة المعطر الفواح، تتصاعد في عنفوان أبخرة الحلبة والأعشاب المغلية، جلابيب بيض محشوة بأجساد رجراجة، وجوه محمرة تطفح بالصحة، محاطة باللحى المشذبة، تمشت السعادة في صدري، وشوش الأمل في أذني، اشعر وكأنني نقلت فجأة إلى الفردوس.
رأيته لأول مرة، يختلس نظرات حذرة، كان في منتصف عقده الخامس، بدى أمامي كصنم، بوجهه الأسمر، ممتلئ الجسم، لا عيب فيه سوى مؤخرته التي امتلأت ازيد من اللازم، للحقيقة فالرجل أنيق لدرجة ملفتة، تعجبني كثيرا تركيبة الألوان الهادئة التي يعتمدها، رابطة عنقه المرزكشة، الدبوس اللامع الذي يتوسطها، حذائه الأحمر اللميع، يده المزينة بساعة من ماركة معتبرة، لا اعرف من يكون، لكن هيئته تكشف عن شخص مهم، مكتبه العتيق، الخزانة الخشبية المحشوة بالملفات من كل صنف، التعليمات التي يسديها لمن حوله في عنجهية غير مفهومة، بمحاذاته كانت جلستي فوق مكتب متواضع، سريعا أخرجت نفسي من بؤرة اهتمامه غير المبرر، تقتحمني عينه في مطاردة لا تنتهي، حركة كرسيه السريعة من تحت جسده الثقيل، ساقه المهتزة في انفعال، نقره المتواصل فوق المكتب، انهمكت مجبرا في مطالعة عبثية، وقشعريرة مؤلمة تتمشى في جسدي، حمدت الله أخيرا، لقد غاب عني في مكالمة طارئة، لكني لم أغب عن ناظريه، طرقت أذني رطانته العجيبة، حديثه الهجين المطعم بكلمة عربية وأخرى لجنس كلام لا افهمه، في هستيريا يطلق ضحكته المصهللة، متبوعة بلزمة لا يتعداها: يا راجل.. يخرب شيطانك…قوووول غير كد، بعد قليل تشاغلت عنه تماما.
اقنعت نفسي بالمبررات التي تعينني على التكيف على مضض مع الواقع الجديد، لم يكن الخضوع المذل، بل مجاراة؛ كقشة تتحرك فوق وجه الماء، ينقلها التيار من مكان لآخر، ظروف الحياة القاسية التي تدفع بك صيدا سهلا، لهذه النفوس المتهيجة للافتراس.
***
سنة أولى غربة
في هذه الديار النائية لا اجد تفسيرا مقنعا، لماذا يسيل لعاب الشمس مبكرا، يندلق بلا رحمة معلنا عن نفسه، ما إن يخرج قرصها جنينا يتخبط في طيات الشفق البرتقالي، إلا ويشهر من فوره سيفا حاميا، تبدو الطبيعة على إثره في سكرة طويلة، منذ قدومي وأنا اتشوق لنسمة الفجر الطرية، تلك التي تندي حقولنا، لا زلت اذكر يوم المجيء، في ظهيرة يوم قائظ من أيام يوليو، القيت بي المقادير في شقة من حجرتين بمنطقة تجمع للوافدين، على عجل برز أماميالحاج عدوي، يتمطى في مشهد استعراضي سخيف، يتثاءب في افتعال، يهرش كرشه المكتنز، يدخل يده بين طيات سروال واسع تتوزع عليه بقع الدهن، قائلا في ظرف: أهلا وسهلا إيه أخبار الحر، طالعته بصمت في ابتسام بارد، تيبست من فوق شفتي الكلمات، صامتا اتخذت مجلسي في الصالة فوق سجادة متوسطة العمر، تناثرت فوقها حشايا مهلهلة، عانيت طويلا في ملاحقة خيوط العرق الملتهبة المنسكبة في جسدي كالثعابين، سريعا لفحني مجرور هواء انساب من غرفة مواجهة، لكن رائحة الطبخ وأصوات التحمير لم تمهلني طويلا، على وقع لحن غناء ركيك يتهادى من الداخل خرج على إثره عبدالله التركي يشهر مغرفة كبيرة مبتهجا، احتضنني في ترحاب حار، هالتني هيئته التي تبدلت بشكل غير متوقع، انكرته بادئ الأمر، امتلاء جسده بكتل الشحم الموزعة في فوضى، دفنت عيناه في أخاديد من اللحم، تمشى الصلع في مفرق رأسه التي هاش شعرها، أما بطنه فتدلت مجعدة في طيات على هيئة بغيضة، عاش التركي عمره أيقونة الوسامة بين الرفاق، لكنه الآن على حالة من التداعي المؤسف، كيف تجرأت سنوات الغربة الست فحولته لآلة متآكلة، تعيش لتأكل، وتأكل لتعمل، لا زالت كلماته عالقة في رأسي يتردد صداها، وكأنني أنظر إليه والحماس يتدفق منه ليلة وداعه قبيل السفر: المستقبل هناك يبتسم لنا يا رفاق، هناك الحياة والثروة ، بدى الواقف أمامي شبحا مخيفا قد تجرد من أثر الحياة، في استسلام تام، تبخرت أمانيه، ارتطم مركبه بصخرة الواقع المرير فتحطم، رضي من دنياه بالقليل، أن يقنع بوقفته بين الأطباق، يشاهد أيام عمره تمر في شيخوخة، تتآكل من أمام موقد متهالك في شقة عطنة، استطاعت أبخرة الأواني محو أحلامه بسهولة، على ما يبدو أنه يعلم ما يدور بداخلي، رماني بنظرة رحيمة، وأنا اتلقى أولى ضربات الغربة الموجعة، ولسان حاله يردد: لا تبتئس يا صاحبي، ستألف هذه الحياة وتألفك.
أحب التركي ابنة شيخ البلد وهام بها، هي الوحيد على ثروة مترامية من الفدادين والبيوت، وعشرات المواشي وحساب بنكي متخم بالآلاف، احبا بعضهما حد الجنون، لكن الواقع لم ترضه تلك العاطفة البريئة استكثرها على العاشقين، ليست في عرفه كافية، لابد من الفراق، لابد من الاغتراب والعناء، الغربة هي الوطن الوحيد الذي يحتضن البؤساء، يفتح لهم ذراعيه ليمتص أعمارهم، باع والده أربعة قراريط نظير عقد العمل، كانت أمنيته الوحيدة أن يستعيد قراريطه، أن يجنب والده المسن سطوة الزمن وجبروته، لكنه عجز عن الوفاء بعهده.
بعد قليل توافدت البقية فهذا أوان وجبة الغداء، لا زلت في ركني الذي تربعت فيه منذ قبل، بعد التحية والسلام، امطرني الجميع بنظراتهم الملتهبة، أغلب من حولي من أبناء قريتنا، فلذة كبدها وشبابها المهدر، تتوزع ابتسامة تكسو الشفاه، لكنها على ما يبدو نزحت من صدور مكتئبة، لم يستطيعوا إخفائها طويلا، انسابت في عفوية شكواهم، والتأفف من مضايقات الزبائن والحر والرطوبة، كيف اصف لكم خيبة أملي وسط هذا الحطام النفسي الملقى من حولي، افترشت الأرض بأوراق الصحف القديمة، تزاحم الجميع في حلقة كبيرة، تداخلت فيها الأجساد، تراكمت فوق الحجور بطون مترهلة، ووجوه شاحبة من كثرة معاقرة القلق، لوحة تتجسد فيها معاني القهر والبؤس، تناثرت أطباق الطبيخ والأرز، ساد صمت ثقيل، اكتفى كل واحد بإيماءة من رأسه، اشتد الحر على وقع أبخرة لزجة، وأيادي مشرعة تسرع في النهب، برزت الصدور تتقلص وتنبسط آليا، ووجوه تكورت أشداقها، تدور في طحن لا يتوقف، على رنين الملاعق تجرف الأطباق، ووسط ضحكات مكتومة لأفواه محشوة بالطعام تسلل الملل لنفسي، كان الحج عدوي البادئ، تجرأ ونطق، وليته ما فعل، ففمه المكتنز بخليطه لم يسعفه، خرجت أنصاف الكلمات حروفا مفرقة، والنصف الآخر فتات من البطاطس والأرز، تدارك الرجل الموقف، في عجالة انتهى من مضغه، قائلا في ملاطفة: كيف حال الأهل، والبلدة، والكوبري، والمصلى، وسكينة بائعة الطعمية، وانفجر في ضحكة مشروخة تشبه نباح الكلاب، ظل على إثرها في لهاث لثواني، زام التركي وقد حدجه من تحت جفن مثقل، حل الصمت ثانية، لتمتد يد عدوي في جدية لتجذب حلة كبيرة، هرش رأسه الأشيب، شرع في توزيع قطع اللحم، وهو يدندن في كل مرة: صلي ع النبي ، بعد قليل انفضت المائدة، زحف الجميع في تكاسل في شبه إغماء، تجشأ التركي بصوت منفر لم اعهده وهو يلكم بطنه، شارد اللب في محياه مخايل التعب، أومأ برأسه، تبعته لغرفة صغيرة رصت بأسرة من حديد صدئ، لطخت جدرانها بعلاقات كدست عليها صنوف الثياب، على ضوء مصباح خافت بدى مبهور الأنفاس، برقت عيناه بالدمع، ندى أهدابه بلل خفيف، تناول حقيبة كالحة من تحت سريره، بقر بطنها المكتظ، اخرج حافظة أوراق تصفحها في ونس، قبض على صورة فتاته، بدت مبتسمة في بشاشة كطفل صغير، توزعت عيناه بين رسائلها، فرد شهادته الجامعية المطوية في ضجر، تمشت في وجهه ابتسامة أضاءت جوانب نفسه المحطمة: كانت الحلم، والآن أصبحت كغيرها مجرد سراب زفر زفرة ملتهبة ثم صمت.
مسكين تتأرجح في نفسه رغبات مورقة، لا تغيب عن قلبه ذكرى أيامه الأول تنازعه، التركي يعمل في محل لبيع الهدايا التذكارية، اقتنع بأن هذا حظه من دنياه، جميعنا يعلم أن الحياة تضيق عن همته، لكنه قانون الغربة المجحف، في كل يوم يصادف رقما جديدا من الكادحين.














