علي رضا زاده
بعد ظهور الهواتف المزوّدة بالكاميرات، دخل مفهوم “السيلفي” إلى حياتنا، وبدأت استديوهات التصوير في المدينة تتناقص تدريجيًا ومع اختفاء هذه الأماكن التي كانت تُعلَّق فيها الصورعلى نوافذها الواسعة، بدا وكأن وجوه الناس أيضًا أصبحت متشابهة، وفرحهم وحزنهم كذلك انحشر في قالب واحد. التُقطت الصور في كل مكان، لكن كل مكان حُرم من عظمة التصوير ومن تلك الإثارة المصاحبة له.
لم يبقَ اليوم إلا عدد قليل من استديوهات التصوير، ويقصدها إمّا من يحتاج إلى صورة للوثائق، وإمّا التلاميذ والمعلمون والطلاب الذين يرغبون في إعداد ألبومات التخرّج.
بهذه الفكرة دخلتُ باب استديو التصوير. استقبلني المصوّر بترحيبٍ دافئ:
– تفضلوا، أهلًا وسهلًا!
– أهلًا! أردتُ أن ألتقط صورة من أجل بطاقة الهوية.
– حسنًا جدًّا… – قال وهو ينظر نحو الستارة السوداء بجانبه، ثم أضاف وهو يدير عدسة الكاميرا في يده:
– إذا لم تكونوا على عجلة، فاجلسوا على الأريكة خمس عشرة دقيقة. في الداخل شخص آخر، دعوني أنهي عمله ثم أدعوكم.
نظرتُ إلى الجهة التي أشار إليها برأسه؛ كان هناك أريكة مغطّاة بقماشٍ أسود وأبيض يشبه رقعة الشطرنج، عند أسفل جدارٍ عُلِّقت عليه صورٌ بلحظاتٍ ملوّنة من أعمار الناس، موضوعة في إطارات مختلفة الأحجام
اقتربتُ لأجلس، لكن الصور على الجدار جذبت اهتمامي إلى درجة أنني بدأتُ أُمعن النظر فيها واحدة تلو الأخرى.
ماذا يمكن أن تقرأ من تلك الصور… هل حاولت يومًا قراءة حياة شخصٍ لا تعرفه، وربما لن تعرفه أبدًا، من خلال النظر إلى صورته؟ يا لها من مشاعر غريبة، ويا لها من أفكار بلا وطن تثيرها هذه اللوحة… عندما وصلت إلى صورة الفتاة في إطار بيضاوي، ابتسمت. لا، تلك الفتاة لم تكن تبتسم، كانت شفتاها مضغوطة معًا، لكنني شعرت بابتسامة في وجهها الأسمر، وفي شعرها الأسود المتجعد كالكروم في مرج الربيع حول هذا الوجه، وفي عينيها الكبيرتين المفتوحتين، حتى بدا لي أن العالم بأسره، وربما الكون كله، مدين لهذه الابتسامة…
مددت رأسي قليلًا إلى الأمام، وفكرت أين يمكنني أن ألتقط هذه الابتسامة الغامضة في صورة الإطار البيضاوي. في غمازات الخدين المستديرين… لا… في ذلك الانحناء الدقيق عند زاوية الشفتين… لا، لیس هذا…
– طفلة جميلة…
استدرت فجأة عند الصوت الذي سمعته، فوجدت المصوّر واقفًا خلفي والكاميرا في يده، وعيناه مثبتتان على صورة الفتاة. كان على وجهه رضا كما لو أنه قد قام بأفضل عمل في العالم.
– صورة مثيرة للاهتمام. – كان الوضع بسيطًا بقدر ما كان معقدًا، ولم أستطع قول أكثر من هاتين الكلمتين.
ـ ولها قصة مثيرة أيضًا… -قال المصوّر ذلك ونظر إلى كاميرته، ثم حرك العدسة هنا وهناك:
– تفضلوا، ادخلوا خلف الستارة.
-الأشياء التي لها قصة مثيرة، هي جميلة- لم أعرف لماذا قلت هذه الجملة
ابتسم المصوّر ونظر إلى وجهي: ألستم في عجلة من أمركم؟
ـ لا… – كان فضولي حادًا جدًا في تلك اللحظة.
جلس المصوّر على الأريكة، وجلستُ بجانبه
ـ لقد التقطت صورة هذه الفتاة في سبتمبر. هی تدرس في الصف الأول. هناك مدرسة أسفل الطريق الذي يمر خلف السوبرماركت، وجدارها مطلي باللون الأخضر.
– أعرفها، نعم…
–نعم، إنها تدرس هناك.
کما تعرف، في الوقت الحالي، الأطفال الذين أنهوا الصف الأول يقومون بإعداد ألبومات التخرج، ويتم دفع مبلغ معين للمصور مقابل ذلك.. يقوم معلم المدرسة بجمع هذا المبلغ من أولياء أمور الاطفال ويدفعه لاستوديو التصوير. ونكتب عليها “الخطوات الأولى”، لقد دعتني أيضًا معلمة هذه الفتاة لالتقاط صورة لها من أجل ذلك الألبوم. بشكل عام، لقد كنا نعمل مع تلك المدرسة منذ سنوات عديدة، وفي الفعاليات والمسابقات دائمًا أكون أنا من يذهب إلى هناك.
ذهبت لالتقاط صور الأطفال. علق المعلم قطعة قماش بلون العشب أمام السبورة، وبدأت أصور الأطفال واحدًا تلو الآخر على هذا الخلفية الخضراء.
في تلك اللحظة، ذكرت أحدی الأطفال أنها حان دورها قائلاً: “هل دوري الآن، أستاذ؟”
أجاب الطفل المعلمة قائلاً: “أمك لم تطلب ألبوم”، ثم رتبت ملابس الطفل التالي وأرسلته إلى جانبي.
كنت مشغولًا جدًا بالعمل لدرجة أنني اكتفيت بالاستماع للحوار القصير بين الطفلة والمعلمة، ولم أتمكن من فهم محتوى الحديث بالكامل. لكن وجه تلك الطفلة الصغيرة لم يغب عن انتباهي.
عندما كنت أصور الأطفال، كانت تلك الطفلة الصغيرة تحاول مساعدة زملائها في الصف على ترتيب ملابسهم، وكانت تتصرف وكأنها تُصوَّر من خلفي، في الجزء الخلفي من الصف، تحت الشماعة، مبتسمة ومبتهجة، وكأنها تلتقط صورة لنفسها، وكانت تُضحك زملاءها في الصف.
بعد قليل، نادت الطفلة مرة أخرى بصوتها الرقيق على معلمتها:
“أستاذة، وماذا عني؟ أريد أن أُصوَّر أيضًا”،
فأجابتها المعلمة: “أمك لم تطلب البوم، قالت لا نريد”. وفي تلك اللحظة، فهمت أنا، كمصوّر متمرس لسنوات عديدة، أن والد أو والدة الطفلة رفضوا الطلب لصعوبة حالتهم المادية لم يتمكنوا من دفع المال لإعداد الألبوم..
لا أستطيع التعبير بالكلمات عن هذه الحادثة الصغيرة، لكنها المأساوية، التي وقعت هناك.
من لم يكن هناك، ولم يرَ ذلك الموقف، ولم يشهد على ملامح البراءة في وجه الطفلة الصغيرة التي تدرس في الصف الأول، لن يستطيع فهمي بسهولة.
في تلك اللحظة اقتربت من الطفلة الصغيرة وأمسكت يدها، وأحضرتها إلى الجناح الصغير الذي أعددته أمام السبورة لالتقاط الصورة.
انحنيت حتى طولاها وقلت لها: “ألن أصوّرك ، يا جميلتي؟!” ثم بدأت ألتقط صورتها أيضًا.
شوف، هذه الصورة هي نفسها التي التقطتها في تلك اللحظة.
بعد ذلك، التقطت صورتها أيضًا بكل الزيّ الرسمي الذي ارتداه الأطفال الآخرون من أجل الالبوم.
بعد فترة، عندما أصبحت البومات جاهزة، أحضرتها إلى المدرسة. كان نهاية يوم الدراسة، وكان الأطفال يستعدون لمغادرة الصف للعودة إلى منازلهم. سلمت جميع الصور الصغيرة للمعلمة.
كنت أرغب شخصيًا في تسليم الصورة الصغيرة لتلك الطفلة الصغيرة بنفسي.
عندما اقتربت وسلمتها الصورة الصغيرة، لم تصدّق عيني الطفلة. ليتكم استطعتم رؤية وجهها، وتلك الشرارة من السعادة التي تتلألأ في عينيها. انحنيت حتى طولاها ووقفت أمامها، ووضعّت الصورة الصغيرة في يديها الصغيرتين.
كانت سعيدة جدًا، واحتضنتني بذراعيها الصغيرتين. كان ذلك أروع وأصفى وأصدق عناق في العالم.
رأيت تلك الطفلة آخر مرة في نفس اليوم في ساحة المدرسة وهي عائدة إلى منزلها.
كانت تحتضن البوم على صدرها لتحميها من المطر الخفيف، وركضت من ساحة المدرسة نحو بوابة الخروج بسرعة كبيرة لتلتحق بوالدتها التي كانت تنتظرها عند الباب.
……………………..
*كاتب من جمهورية أذربيجان – مدينة باكو





