قراءة نقدية في ديوان “يكشط العدم بأظافره ويقهقه” للشاعر محمد الكفراوي

mohammed kafrawy
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن غريب أحمد

في البدء:

يأتي ديوان «يكشط العدم بأظافره ويقهقه» للشاعر محمد الكفراوي، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 2025م، بوصفه عملاً شعرياً ينتمي إلى تلك المناطق المقلقة في الروح الإنسانية، حيث تتقاطع الذاكرة بالحلم، والموت بالبعث، والعزلة بالتمرد. العنوان نفسه مفتاح دلالي كثيف؛ فـ”الكشط” يوحي بفعلٍ عنيفٍ ضدّ السكون، و”القهقهة” تأتي كصوتٍ يعلن التحدي والتمرد على العدم، لتكشف منذ اللحظة الأولى عن وعيٍ شعريٍ متمرّدٍ على الركود الوجودي.

العالم الشعري بين التهكم والوجود:

في قصيدة «كيف انتصرت على مدينة من الحمقى بقبضةٍ صدئةٍ»، نجد الكفراوي يواجه مدينته بوصفها كياناً متعفّناً، مملوءاً بالرؤوس المشجوحة والأفواه المصيدة، وكأنها رمزٌ للواقع المأزوم الذي فقد روحه. يخلق الشاعر هنا مدينةً مجازيةً تمثل العالم الحديث بكل ما فيه من فسادٍ روحيٍ وبشريٍ، ثم يواجهها بـ”قبضة صدئة”، أي بقوة ضعيفة ظاهرياً لكنها مسلّحة بخبرة الألم.

يقول:

“مَكَبُّ نِفَايَاتٍ
لَيْسَ أَقَلَّ. رُبَّمَا أَكْثَرُ،
رَائِحَةُ الجَثَامِيْنَ الحَيّةِ تَتَلَوّى فِي الفَرَاغِ…”

في هذا المشهد الكابوسي، يتحوّل الشاعر إلى ضميرٍ جمعيٍّ يصرخ باسم الإنسان المعاصر، ذلك الذي فقد معناه في زحام الحماقة الجماعية.

الحبّ كخلاص مؤقت:
في قصيدة «صهباء وبنمَشٍ»، يقدّم الكفراوي تجربة الحب لا كغنائية رومانسية بل كـ”أسطورة حسيّة روحية”، إذ تتحول المحبوبة إلى كائنٍ كونيٍّ متجاوزٍ للجسد، قادرة على أن تملأ فراغ الوجود:

“كُنْتُ أَعْتَبِرُهَا نَوْرَانِيّةً…
وَأَطْلَقْتُ عَلَيْها الفَتَاةَ البُرْتُقَالِيّةَ…”

إنها استعارة للحب بوصفه فعل خلقٍ جديدٍ للعالم، فالحبيبة ليست امرأة فقط، بل طاقة كونية تفيض حياةً في قلب الشاعر، لتواجه الموت اليوميّ الكامن في الواقع. ولعل تعبيره “فائض النمش الذي يتساقط من محياها” يكشف عن رهافة شعرية تشبه الحلم الطفولي الممزوج بالوجع الوجودي.

الشغف بوصفه طقساً مقدساً:
قصيدة «شغف» تنتمي إلى النصوص التي تحتفي باللذة لا باعتبارها جسداً، بل طقساً روحياً للاتحاد الإنساني. الشاعر يطلب من محبوبته أن “تُدلِق الشغف في كأسه” ليعيش لحظة التجاوز القصوى:

“هَاتِ الشَّغَفَ…
أُدْلُقِيْهِ فِي هَذِهِ الكَأَسِ…
أُرِيْدُ فَقَطْ أَنْ أَتَشَمَّمُهُ…”

إنه شغف كونيّ يذيب المسافة بين الذات والعالم، بين الروح والجسد، حيث يتحول الحب إلى شكلٍ من أشكال المقاومة ضد الفراغ.

العدم بوصفه مسرحاً للخلق:
الكفراوي لا يهرب من العدم، بل يواجهه ويضحك في وجهه، كما يوحي عنوان الديوان نفسه. إنه شاعر التمرد على اللامعنى، لا عبر البكاء، بل عبر السخرية المضيئة، واللغة التي تُجسِّد العبث لتمنحه قيمة فنية وفكرية. حين يقول:

“يَكْشُطُ العَدَمَ بِأَظَافِرِهِ وَيُقَهْقِهُ”،
فهو لا يصف فقط فعلاً عنيفاً، بل يقدّم بياناً شعرياً وجودياً يؤكد أن الشاعر هو من يُعيد تعريف العالم عبر جرح اللغة وابتسامتها في آنٍ واحد.

البنية اللغوية والأسلوب:
تقوم تجربة الكفراوي على تكسير الشكل التقليدي للقصيدة العربية الحديثة، إذ يستعين بالبنية المشهدية، والمونتاج البصري، ولغة الحلم. تتحرك الجملة الشعرية لديه بحرية سردية، لكنها مشحونة بكهرباء الداخل الإنساني. اللغة عنده ليست وسيلة للتعبير بل كائن حيّ يتنفس، يختنق، ثم يصرخ من جديد.

قبل النهاية، رؤية نقدية:
ديوان «يكشط العدم بأظافره ويقهقه» هو نصّ يقف على تخوم الشعر والفلسفة، يمارس فيه الكفراوي حفرياته في النفس والعالم، كمن ينقّب في الخراب ليجد شرارة ضوء. إنه ديوان يعلن أن الشعر ما زال قادرًا على تحويل الألم إلى معنى، والعدم إلى ضحكٍ كونيٍّ مؤلم. بهذا المعنى، يمثل الديوان إضافة نوعية إلى المشهد الشعري العربي المعاصر، بل تجربة فريدة في إعادة بناء الحسّ الشعري بوصفه فعلاً وجودياً لا تجميلياً.

 

مقالات من نفس القسم