قراءة في جنازة جديدة لعماد حمدي

وحيد الطويلة: نحن الكُتّاب غلابة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح التايب

عبر سرد محكم وذكي، يدخل بنا الروائي المصري وحيد الطويلة إلى العالم السري للمسجلين خطر. رواية تمتص القارئ داخلها، عبر استخدام ضمير المخاطب، ليصبح شريكاً في الجنازة / الجريمة. “احترس. احترس أيها القارئ. قف مكانك. ثبت قدميك في الأرض جيداً، اسحب نفساً عميقاً … الأمر يستحق. أنت مقبل على تجربة تستحق المخاطرة … ” في محاورة مع رواية لو أن مسافرا في ليلة شتاء، يدخل القارئ النص بلا توقعات مسبقة عما سيحدث. كل ما يعرفه أن ( فجنون) ضابط المباحث المتقاعد في طريقه لجنازة ( هوجان ) ابن ( ناجح) زعيم جمهورية المسجلين خطر. يعرف القارئ أن بطل الرواية فنان أيضا، فنان مجنون. ضابط أرغم على الدخول لكلية الشرطة بناء على رغبة والده، قال نعم، ولم يقلها بعدها. ” لو ترك أبناء الضباط المهنة للرعاع سيتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش، ثم إن الزمن القادم زمن الضباط”.

السلطة مغرية، مغناطيس ينجذب إليه كل طامع في السطوة، من يريد أن يكون من الفرقة الناجية. السلطة تتجسد هنا بوجهين يقفان على وجه النقيض، رجل الشرطة، وزعيم المسجلين خطر. حمل الجنازة ، أقصد الرواية، شخصيتان رئيسيتان، فجنون وناجح، وحولهما تجمعت باقي شخوص الرواية، من عالم غامض ومعقد، عالم الجريمة والمخبرين والبلطجية ومسجلات الآداب وعشاق السلطة. غزلت الرواية لتكن رواية قوامها شخصياتها، فليس هناك حبكة كلاسيكية، بداية ووسط نهاية. لم يعتمد الكاتب هنا قالب البناء التصاعدي للنص. بل رسم، مثل فجنون، لوحة متفرقة ملامحها، ليجمعها القارئ، بعد أن أصبح شريكاً في النص، فيرى الأحداث بوضوح، بداية الحكاية من أين ومتى.

من أين؟ فمن خلال وصف النص لملامح الأماكن نقدر أن نستشف أن العاصمة كانت المحيط الجيوغرافي للحدث. متى؟ فالحدث المفتاح هنا هو وفاة الممثل المصري عماد حمدي فقيراً ومنعزلاً في منتصف الثمانينات، ومع حساب فترة خدمة فجنون لمدة 20 سنة في الشرطة، فالأحداث تقف عند منتصف العقد الأول من الألفية ثم نتجاوزها لسنوات قليلة حيث جنازة أخرى بطلها هوجان ابن ناجح. هذا هو الزمن الطويل للأحداث، لكن زمن الحكي نفسه هو الوقت الذي قطعه فجنون من بيته وصولا لسرادق العزاء ثم خروجه منه. مثل من يتفحص ألبوم صور، نتعرف على الشخصيات جميعها، تشابك العلاقات بينها، الجريمة وما يحيطها من هالة تكسبها غرابة وشراسة وضبابية. جمع الروائي باقتدار هذه الشخوص جميعاً في القسم الأخير من الرواية، مثل فهرست، لتذكير القارئ والبطل وليخبرنا كيف انتهت مصائرها. بدأت الرواية من منتصف الحدث، لحظة اقتراب فجنون من السرادق. وانتهت بمغادرته له، وبين الدخول والخروج، تعمل آلة الفلاش باك لنرى ماضي بطلنا مع رفيق مهنته، زعيم المخبرين والمسجلين خطر. 30 فصلا مرقمة بلا عناوين باستثناء فصلين، بعدد قليل من الصفحات لكل فصل، يحكي كل فصل منها عن شخصية مرت بحياة بطلينا.

طرحت الرواية عدة أفكار واقعية تمثل الكثير من المسكوت عنه في مجتمعنا. نرى الوله بالسلطة عند الكثير من شخصيات الرواية. والد بطلنا الذي أجبره على الدخول في كلية الشرطة، غصبا، محيلة إلى قضية توريث السلطة والتي شغلت مصر طوال فترات حكم مبارك، وما تزال. نقرأ هنا ” كانت البنات تصطف على أسوار كلية الشرطة ليشاهدن الطلبة وهم خارجون من كلية الشرطة بزهو، يصرخن كأنهن يشاهدن نجوم السينما والنجوم تلمع على أكتافهم”. نرى أيضاً تمسح الكثير بالسلطة، مثل شخصية عبقرينو، شيرلوك هولمز، معدل ليناسب متطلبات ضابط المباحث، يساعد في حل القضايا، ولا يطمع في منصب، بل هذا الشعور بالسلطة والزهو. كذلك نرى التواطؤ الخفي بين رجل المباحث وزعيم المسجلين، كلاهما يكمل الآخر، يساعده ويحذر منه في نفس الوقت.

يحيلنا الكاتب للكثير من أسرار عالم الجريمة ذاك، حيث توجيه الانتخابات وحماية سرادق مرشح وتخريب سرادق لآخر. مشاركة المباحث في حل قضايا معقدة في الخفاء وتوفير متهمين متطوعين لقفل القضايا المفتوحة. كل ذلك من خلال سرد واعي بذاته، ساخر ومحكم للغاية. لم يترك الطويلة ثغرة زمنية ليمسكها القارئ كخلل، بل ضبط نصه بخبرة ومهارة يحسد عليهما. أسلوب الطويلة – من حيث اللغة – سلس وممتع، طعمه الكاتب بأمثال وأغان شعبية تناسب حالة النص. شكلت موسيقى خلفية للأحداث. خلطة مدهشة بين عالم السلطة والجريمة والرسم والغناء. أٌستعمل التبادل بين ضمير المخاطب والمتكلم لوصف الأحداث، أسلوب يورط القارئ في اللعبة من أولها لآخرها. كانت الجمل الحوارية موجزة معبرة جدا عن شخصياتها. وكالعادة يترك الطويلة النهاية مفتوحة ليتخيل القارئ ماذا يمكن أن يحصل.

من قرأ رواية ” حذاء فيلليني” سيعرف اهتمام الكاتب بتفكيك الاستبداد وآليات السلطة، دراستها وكشف العوار داخلها. هنا، على عكس الرواية المذكورة، لا نرى فقط عمل السلطة في مجال كشف الجريمة، بل نرى حرص الناس على التمسح بها. الكل يتقرب منها، سواء بالدخول في كلية الشرطة، أو انتحال صفة أفرادها، أو حتى الخروج عليها. رواية ممتعة للغاية ولا يمكن تلخيصها في مقال واحد، حيث التأويلات تفتح أبوابها على اتساع. من الرائع أن أبدأ بها قراءات العام.

مقالات من نفس القسم