طيور الحذر .. صغيرٌ يعلم العصافير الحذر من مصير وطن

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

ولاء الشامي

 (مريم .. اسم طفلة فلسطينية كان ميلادها في المخيم ، يوم 11 من يناير مش مهم في أي عام)

 

     أغنية كثيرًا ما تخطر على بالي وأرى فيها تلخيصاً لمعاناة لجوء الفلسطينيين؛ فالأعوام تمر في المخيمات بلا جدوى، مأساة تتشكل في وجوه الصغار الذين يجدون أنفسهم وقد ولدوا في المخيم، مستقبل بلا ملامح لمنفى يستدعي صورة الوطن الغائب، لا يمتلك الصغار رفاهية الاحتفاظ بذكريات أو الشعور بالحنين لماضٍ بعيد، في المخيم تتكشف المعاناة ويفضحها بؤس العيش، وينمو وعي الصغار مبكرا ويتفتح على مأساة الحصار والشتات. " لمّا بدأت بالكلام، كانت الأيام أمان، والليالي زي بعض ... انتظار وشوق وبرد  

رواية عن صغير يعلم العصافير أن ترفرف على حذر وأن تخدع الفخاخ وتنجو بحياتها ..

مهلا.. صغير يعلم الطيور الحذر؟

 في أجواء غرائبية امتزجت بالواقعية يتناول الروائي الفلسطيني "إبراهيم نصر الله" في رواية (طيور الحذر) الشتات الفلسطيني منذ عام 1948 حتى النكبة الثانية عام 1967، ونشوء المخيمات، مختاراً أن يختزل المأساة برمتها في مجازية العصفور .

الصغير "الذي لم يُكر اسمه" يشهد وهو في رحم الأم على العالم الذي يعيش فيه ويقيم علاقة مع العالم الخارجي، وبخاصة مع العصفور الذي يغرد، أمه "عائشة"، وعلاقة أخرى مع طفلة تدعى حنّون لتمثل له قيمة الحب فيما بعد، والقطعة الزرقاء التي يعشقها ويكتشف  من خلالها ضيق بيته الذي يسكنه  فيتمنى ويجاهد للخروج من الرحم مدفوعا تساؤل ذي طابع وجودي  "لماذا لا يكون هذا البيت الجميل خارج بطن الأم"؟ 

" الولادة هي لحظة الحياة، لحظة الكشف والخروج من الظلمة"

تنظر بعين هذا الصغير إلى العالم، ثم تتحول إلى رؤية عالم الصغير نفسه فيصبح موضوعك ومثار فضولك كيف يتواصل هذا الصغير مع العالم من منظوره الخاص، يرينا الصغير الحياة في المخيم من منظور رؤيته الخاص، يراقب ساكينه الذين يعيشون ألما وضياعاً ناتجا عن انتظار أجوف ، يحدقون في عين المجهول ولا يرون سوى سراب، جاعوا وتشردوا واحتلوا مساكن الثعالب وعملوا بالأعمال الخطرة ولا مفر .

 يعيد "الصغير" اكتشاف كل ما تعرف عليه قبلاً في رحم أمه، ثم يسرد عليها كل ما شاهده أو سمعه خلال وجوده في داخلها في مشهد عجائبي. أراد إبراهيم نصر الله أن يرسم صغيرا هو معجزة نضوج مبكر يعتريه ليتأكد له أن معاناته قد تخلق منه رمزا له دور فعَال يُختزل هذا الدور في تعليم العصافير الحذر؛ لأن الطائر لا يقع في فخاخ صياد مرتين  .

لا يصيد الصغير العصفور ليأكله ولا حتى ليدعه يطير فيرى لحظة نادرة من الحرية، الصغير يصيد العصافير ليعلمها أن تحذر ينتف من ذيله عدة ريشات ثم يطلقه، درس مهم في الحرية يلقنه الصغير للعصافير، يتعلم العصفور الحذر فينجو من الفخ في المرة الثانية، ويتأمل الصغير ويظل يراوده الأمل ، بُعد وجودي مهم يعيشه الصغير بوعي كامل وأعين مفتوحة على التجربة

يقول الأولاد: العصافير تستجيب له وتنفذ ما يقوله". "إنه يسحر العصافير، يصفر لها فتمشي أمامه كالغنم" . مدفوع برغبة صادقة في حماية كل ما هو حميم يصادق الصغير العصافير ويضفي عليها مسحة إنسانية والحذر يجمعه بها فيكون أشبه بالمخلص الحقيقي .

تحتلُّك هذه الرواية  برمز خانق فصورة القفص ماهي إلا دلالة على جدلية العلاقة بين الحرية والعبودية ، القفص والتحليق ، تسأل الرواية بمنتهى الحدة " متى تُجَبر أجنحة الفلسطيني الكسيرة وتقوى على الطيران ، وقد دُفع دفعاً نحو القفص ومنعه عدم حذره من الإفلات منه ؟ ... ففي حرب 48 اصطيد العرب بالخيانة والألغام لما أغفلوا الحذر، تماما "كعلي والد الصغير" حين دفعه عدم حذره إلى انطباق الفخ فذاق مرارة المعتقل " نحن نجري جرياً نحو أقفاصنا، وحين لا يضعوننا فيها، نضع أنفسنا في قفص أكثر قسوة ، قفص الوحشة والانتظار" .

" فرحا لأن القذيفة التي ألصقتني بالأرض لم تصل لعصافيري: فرحاً لان عصافيري كانت ترتفع وترتفع .عصافيري وعصافير أخرى لم أكن رأيتها من قبل، وكانت هناك رفوف سنونو أيضاً. فرحاً لأنهم حين وصلوا لم يجدوا غير قميصي في المكان"

    نهاية مأساوية مناسبة جدا  ملهاة سادها القهر، مشهد رسم بشكل غرائبي لقذيفة قتلت الصغير فلا نعرف أن كان "الصغير" مات أم فعلاً أم أن العصافير طارت من داخله . 

 لم تلق أي شخصيات الرواية إهمالا من كاتبها، فكل شخصية كأنها شخصية البطل، كذلك لم يهمل نوازعها وهواجسها تارة بالتداعي وتارة أخرى بالمناجاة أو الهلوسة ، ولك أن تعتبر العصافير شخصاً روائيا هنا، العصافير التي يعاملها البطل كما لو أنها من البشر  .

امتلك "ابراهيم نصر الله " ناصية اللغة، فكأن لغته عصفور تعلم الحذر فنجا من الفخاخ .اللغة المحكية ساهمت في وصف المأساة من خلال  جو مأساوي خانق يدفع القارئ نحوه دفعاً فينغلق عليه فيستمر في قراءة الرواية منكسراً

"الطفولة مش طفولة في المخيم.. الصغار ما بيلعبوش، ما بيضحكوش، مولودين والشعر شايب، بين قضيّة وبندقيّة ، والقضية هيّة هيّة ..  كان في عينها شيء بيسأل: وطني فين؟!"

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كاتبة مصرية 

 

مقالات من نفس القسم