قانون العزلة في متحف النسيان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

أصبحنا نتوقع مسبقاً ما يمكن أن تقدمه لنا الكتابات السردية الطالعة من أرض صعيد مصر، نظراً لتكرار موضوعات بعينها لصيقة بهذا العالم، وكذلك اجترار طرائق سردية محددة عند تناوله، ومع ذلك فما زالت هناك استثناءات قليلة، أحدثها – بالنسبة لي – هي  رواية متحف النسيان، الصادرة مؤخراً عن دار روافد، وهي الكتاب الأول لمحمود عبد الغني، فقد آثر أن يقدم قريته كوم أبو شيل، مثل بلورة مسحورة تنعكس عليها أطيافه الخيالية، دون أن يكون لها هي بالذات أي وجود واقعي، يمكننا أن نلمسه ونتتبعه على الخرائط وفي بطون كتب التاريخ.

 

عالم الصعيد في هذه الرواية ليس ذلك العالم الفولكلوري الذي اعتدنا تثبيته وإعادة إنتاجه في أيقونات جامدة، بعضها أقرب إلى الصور السياحية التي تروّج للغرباء والأجانب، بقدر ما هو عالم فوق واقعي، شبه رمزي، استطاع أن يكون مجازاً كبيراً يستوعب بداخله التجربة الإنسانية للشعوب المهمشة والمستغَلة على طريقة حارة محفوظ في الحرافيش, أو قرية ماركيز في مئة عام من العزلة. وكلمة السر هنا هي تشغيل الخيال، وتحويل ما اصطلحنا على تسميته بالتاريخ إلى مجموعة من الخرافات المشكوك في صحتها، تتوارثها الأجيال ولا يؤكدها نصٌ جامع مانع إلا هذه الرواية ذاتها، التي تدور – كالعادة – حول مخطوط ورحلة العثور عليه، والأهم رحلة الوصول إلى كوم أبو شيل في أقاصي الجنوب. وعلى لسان أبناء هذه القرية يقول: “لأننا قرية بلا ذاكرة، نسينا العالم فنسينا العالم، وأصبحنا في مأمن من كل الكوارث المخبوءة في بطن الحكايات”، هكذا تكرس قرية كوم أبو شيل قانون عزلتها، وفي الوقت نفسه تكسر هذه العزلة بحكاية مكتملة الأركان، في مفارقة واضحة.  والعزلة هنا ليستْ لعنة مكتوبة على شعوب بعينها بقدر ما هي خياراً وجودياً، وطريقة للعيش.

متحف النسيان روايتان في رواية، هما المتحف والمخطوط، يتابعهما القارئ بالتوازي، الفصل الأول من هذه ثم الفصل الأول من الأخرى وهكذا، إلى أن تتم كلٌ منهما ستة فصول، حتى يدمجهما الفصل السابع برقمه السحري في وحدة واحدة وكأنما الدائرة قد اكتملت.

رواية المتحف التي يستقبلنا فصلها الأول هي أقرب إلى جو الروايات البوليسية المترجمة، رحلة بحث لصحافي ومتخصص في علم التاريخ عن قرية مجهولة وغامضة اسمها كوم أبو شيل. نتابع فيها تنقله خلال مؤتمر عالمي، من عاصمة إلى أخرى، وفي كل محطة تقابله امرأة ما ويرشده أحد العلماء ويعثر على خيوط ودلائل تقربه من هدفه، وفي الأثناء تلوح له فتاةٌ غامضة كأنها تتبعه وهي تحمل كتاباً مميزاً، سيكتشف عند عودته إلى مصر أنه المخطوط الذي يثبت وجود كوم أبو شيل (هذا هو المخطوط الذي ستشكل فصوله الرواية الثانية). إننا هنا إزاء نموذج مصغر لعمل من أعمال دان براون، حيث اللغز ممتع ومشوق ولا يخلو من دلالات ثقافية وإنسانية عامة، وحيث الجو – على واقعيته – بلاستيكي مصطنع، خاضع سلفاً لنمط شبه ثابت: عاصمة فيها امرأة تنتظر باحثنا وترشده إلى عالم كبير يرشده بدوره إلى خيوط جديدة، إلى أن يعود إلى مصر ثم يسافر إلى الصعيد ويعثر على كوم أبو شيل الحقيقية.

ثم تأتي الرواية الثانية، المخطوط، والتي يُعد فصلها الأول هو الفصل الثاني من متحف النسيان بترتيب الصفحات،  فهي الطلّسم السحري الذي بقدر ما يؤكد وجود كوم أبو شيل بقدر ما ينفي عنها كل ملامحها الواقعية ويضفي عليها أبعاداً أسطورية وغرائبية، ولا يسجل فيه إلا محطات تقاطع هذه القرية مع العالم الخارجي، كل محطة هي حلقة جديدة في مسلسل بلا أول ولا آخر، تكافح فيه هذه القرية على البقاء بمنأى عن العالم الخارجي، وكأنها كوكب آخر أو عالم موازي. ترفرف على لغة السرد في هذا النصف رُوح محمد مستجاب – رحمه الله – هامسة للروائي الجديد بتعاويذها الخاصة، وتغلب عليه فورة خيال جامحة، يكاد يكون شيه هذياني في بعض الأحيان، وتتعدد فيه الأصوات التي تروي الواقعة الواحدة دون تمييز بين تلك الأصوات، حيث ينتقل السرد فجأة وفي السطر نفسه من الجماعة إلى الفرد أو من أبناء القرية إلى أحد الدخلاء عليها، وهي حيلة سردية ممتعة، حتى مع الارتباك التي قد تسببه، غير أن تماهي الأصوات وتشابه نبراتها حدّ من الإمكانيات الهائلة المتمثلة في تباين وجهات النظر بتعدد الرواة للواقعة ذاتها.

كان للتراوح بين العالمين – الروايتين أثراً مُنشطاً على السرد، وخصوصاً للتباين الكبير بينهما، ففي حين تمضي حكاية المتحف في خطها المستقيم من محطة إلى أخرى ومن اكتشاف إلى التالي، تدور رواية المخطوط في دوائر كأنها متاهات صغيرة ملتفة حول ذاتها، مثل تلك التي كان يصنعها أبناء قرية كوم أبو شيل لتضليل الغرباء. “المتحف” لغتها سهلة القراءة ورائقة، ولا تجنح كثيراً للزخارف اللغوية، على النقيض تماماً من شقيقتها “المخطوط”، حيث تضطلع اللغة بدورٍ كبير في لعبة الحكايات الممتعة.

وفي الفصل السابع والأخير يلتقي العالمان أخيراً (المتحف/المخطوط)، مع دخول الباحث- الراوي إلى صفحات المخطوط نفسه، عند وصوله لكوم أبو شيل، ومصادقته لبغدادي الشخصية الأسطورية، واستغراقهما في التحشيش والشراب في الليلة الكبيرة للمولد، في مشهد النهاية المرح اللذيذ حيث ينزل بغدادي إلى الترعة ليجمع شظايا القمر الذي أسقطه الراوي بطلقة من بندقيته.

لا يكتب محمود عبد الغني عن قريته المتعينة، التي يعيش فيها أشخاص لا نماذج، والتي تتماس مع العالم خارجها الآن ككل ركن في عالمنا هذا راضية أو مرغمة، بقدر ما يكتب عن قريته هو، عالمه الخرافي الخاص، الذي كأنه الصعيد كله في لحظة، وفي لحظة أخرى كأنه مصر بطبقاتها التاريخية إجمالاً، شفرة مراوغة لم تسلم من الارتباك، وعالم خفيف متطاير لا سبيل إلى الإمساك، يتشكل تلقائياً في هذيان اللغة وتداعي الحكايات، عالم لا يكاد يأبه بالآخرين، ضيوفاً كانوا أم فاتحين أم عابري سبيل، مادام صامتاً مصمتاً مغلقاً على أسراره وكنوزه وحتى مصائبه، لكنه مع ذلك يظل يتحرق شوقاً للانفتاح والانكشاف وإعلان تجلياته الخاصة أمام أعين الجميع، حتى ولو اتضح تشوهه وعقمه وسقطت أسطورته.

ليستْ متحف النسيان رواية تاريخية، بقدر ما تسخر في بعض الأحيان من إمكانية وجود ما نسميه بالتاريخ، رسمياً كان أم غير رسمي، وبقدر ما تؤكد على منطق الأسطورة الخاصة بكل الجماعة، وحرص تلك الجماعات على نقائها وعزلتها، فالعزلة هنا ليست لعنة مكتوبة على بعض الشعوب كما في مئة عام من العزلة، بقدر ما هي قانون للعيش، حدّ أن أهل القرية قد يخترعون لأنفسهم صورة جاهزة ومعدة سلفاً، مناسبة لاستهلاك للوافدين والغرباء (قد تكون هي الصورة الفولكلورية أو السياحية). وفي حرصهم على عزلتهم ونأيهم عن العالم ليس ثمة ما يدعو إلى تدوين تاريخ ما أو تسجيل ذاكرة، غير تلك المناسبات القليلة النادرة التي كشف الآخرون فيها وجود تلك القرية، وتماسوا معها، فلا يكون تاريخ كوم أبو شيل إلى سلسلة من مرات الانكشاف والانفضاح على الآخر، أياً كانت ملامح هذا الآخر أو نواياه.

في مواضع كثيرة افتقرت الرواية إلى العناية باللغة وتشكيلها، فبدا عليها التعجل والخطف السريع للمعاني والتجارب، واللجوء للمسكوكات الجاهزة، وثقلت بالفعل كان في كل سطر تقريباً. ومع ذلك تظل تجربة سردية مغامرة وجديرة بالقراءة والتأمل، ففي راويته الأولى صوّب محمود عبد الغني طلقته نحو القمر، وهو طموح يعدنا بأعمال تالية أكثر اكتمالاً وأصلب عوداً. 

ـــــــــــــــ

ريفيو:

الرواية: متحف النسيان

المؤلف: محمود عبد الغني

الناشر: دار روافد

 

مقالات من نفس القسم