ثنائية النور والظلام في رواية “إخوة الرب”

إخوة الرب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبي

“في هذه الغرف المظلمة التي أمضي فيها أيامًا ثقالًا، أروح وأغدو باحثًا عن النوافذ، ولكن ربما كان من الأفضل ألّا أجدها، ربما كان النور عذابًا جديدًا، من يدري كم من أشياء جديدة ستظهر”، بهذه السطور العذبة من إحدى قصائد الشاعر اليوناني السكندري العظيم قسطنطين كفافيس، يمهّد ماجد وهيب لدخول روايته الثانية، إخوة الرب، الصادرة عن دار روافد، ولعلّ ثنائية الظلام والنور، بمستوياتٍ اجتماعية ودينية عديدة، تجد صدى لها في حياة أغلب شخصيات العمل، وخصوصًا يوسف المتمرد على الدين والأهل وكل شيء، والذي قد لا يجد خلاصه إلّا في الكتابة، ليدرك أن النور قد يكون بالفعل عذابًا جديدًا إن لم نستطع احتمال ما يكشفه لنا.

يُوسف، ابن العائلة المسيحية الفقيرة في إحدى مدن الصعيد، هو أقرب إلى كرة النار التي تضئ كل ما يحيط بها، وتحرق نفسها بنفسها في الحين ذاته، لم تركز عدسة السرد عليه إلّا متأخرًا قليلًا، بعد أن تنازع أفراد الأسرة الآخرين اهتمام الراوي خلال ثلثي الرواية التي تقارب المائتي وخمسين صفحة. لا أظن أن توزّع الاهتمام هذا كان في صالح الحكاية ككل، رغم ثراء وتفرد بعض الشخصيات مثل الأب نعمان، بكل تناقضاته وتحوّلاته المأساوية. صوت الراوي العليم هو المهمين على السرد، وعلى الشخصيات أيضًا في أحيان كثيرة، يحكي عنها ما قد لا تعرفه هي ذاتها عن نفسها، وفي بعض المواضع، يتوجّه بحديثه إلى القارئ مباشرةً، مفسرًا ذِكر هذه الحادثة قبل تلك أو المسافة الزمنية الفاصلة بينهما، وهو في غنى عن ذلك تمامًا. قرب نهاية الرواية يشير إلى حذفه عبارة على لسان يوسف قد تعرّضه (الراوي أم المؤلف نفسه؟) للمحاكمة بتهمة ازدراء الأديان، طرافة الملاحظة غير متناسبة كثيرًا مع نبرة سرد الحكاية ككل، وهي نبرة جليلة ووقور وتذهب بالأسئلة الإنسانية الكبرى حتى آخر الشوط، نبرة آزرتها لغة تجاهد للاحتفاظ بأناقتها وجزالتها دون تضحية بالسلاسة، لغة تذكرنا بين حينٍ وآخر بالأسلوب المحفوظي في بعض الروايات التي تتقفى أثر أفراد عائلة واحدة ومصائرهم، على سبيل المثال، من داخل وعي الأب نعمان نسمع هذا الصوت: “أين القوة والفتونة؟ أين الأصدقاء وجلسات الأنس؟ ضاعت الأشياء كأنها لم تكن وحلّ الندم. أين كان العقل؟ صار يسأل نفسه”.

مقارنةً برواية ماجد وهيب الأولى “المرج”، فإن “إخوة الرب” أكثر اكتمالًا وإلمامًا بأسرار الحرفة، فهو هنا أكثر قدرة على الاستحواذ على قارئه، وجَذبه إلى عالمه المتشعب بطبقاته وألوانه، ولولا الميل للإسهاب في مواضع كثيرة لخرج هذا العمل أرشق وأصفى. إننا نتأمل مع الصوت المهمين للراوي في عالمٍ قد لا يكون مألوفًا للغاية في الأدب المصري، وخصوصًا من زاوية علاقة فقراء المسيحيين بالكنيسة واضطرارهم إلى شعائر الدين طمعًا في تلقي المساعدات المالية، تم تقديم هذه المفارقة الحزينة بقدرٍ لا بأس به من الجرأة المحسوبة ودون شعارات زاعقة.

جميع عناصر الراوية توحي بالمجهود الهائل الذي يقف خلفها، من رسم للشخصيات والعلاقات بينها إلى تتبع الحكايات الأساسية والفرعية، رغم غلبة الإخبار المباشر على التصوير بالمشاهد في أغلب أجزاء العمل، ورغم ضياع بعض خيوط ذهبية صغيرة وسط زحام كان من الممكن أن يصير أخف وأرحم لو امتلك صاحب العمل قلبًا أقسى في ممارسة الحذف والتشذيب. إخوة الرب رواية جديرة بالقراءة والالتفات النقدي إليها، بصورة أعمق من ملاحظاتي الانطباعية البسيطة هنا، ليس فقط من أجل ما تتناوله من مسائل شائكة، بل لوفائها وإخلاصها لتراث الفن الروائي العالمي والعربي، وطموحها للانعتاق منه في الحين ذاته.

 

مقالات من نفس القسم