فَارِسَةُ المُتَوَحِّد

موقع الكتابة الثقافي art 61
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ناصر الحلواني

الفرسُ في ظلِّهِ يتأوهُ

مثل رُمحٍ يخترقُ بدنا

لا يعرفهُ بَعد

وفي الأنحاء

تتناثر جيرونيكا

والعيون المفتوحة

على الموت

وأجسادٌ لم تبرح

تصرخُ ببعض روحٍ

وببعض موت

وأكفٌ تمتد

إلى نهاية الأذرعِ

تتعلق بالأعالي

وببقايا نور

يصبغ وجع المذهولة

عن موتها

بوليدها

وما كانت اللمبة الوحيدة في سقف اللوحة بقادرة على أن تُخفي ما بقي من قبضة حيَّة، أو شذرة النصل المكسور في الكفِّ الصُّلبة، أو وردةً لها لون البدن، أو ثديا يمتلئ بحليب الضوء.

وفي بهاء يحتمي الثور المبتور بأنين امرأة، تتشكل مثل طائر، يشرع في التحليق بفرخه المغتال إلى سمائه، ولا …

وفي وجل، يدور نون بعينيه في أنحاء اللوحة، وفي الأنحاء تنساب ترنيمة موتسارت الجنائزية، وفي المكان يحل صفاء الموت.

وفي الخارج، تتواتر الخطوات إلى الباب الوحيد بين السماء وبين الغرفة المبتهجة الليلة بالموت المتاح.

يسمع نون خبطات خافتة، يفكرُ إن كان موتسارت قد أحال ترنيمته الجنائزية الأخيرة إلى احتضار حي.

تتوالى الخبطات سريعة، في رقة المشغوف باجتياز رسوم المدينة المحطوطة في جسد الباب، إلى شاغل الفراغ المتواري، فيجدها في لهفتها، وتجده في ذهوله ووحدته، وتدخل، وليس سوى مصباح وحيد، وذاكرة تندَس في القلب، فلا يكون كلام.

تُسائلُه: “سمَّيتَني باسم مدينتِكَ”، وتتهيأ بشَدوِها.

تُساءلُه: “أهي الحبيبة؟” وتومئ إلى شريط حرير معلَّقٌ في غمده.

ينطق: “أنت العارفة بالدواخل، أنبئيني” ويراوح بين ظل الفرس ونور حروف الحبيبة، في جسد الحرير المدلَّى من غمده.

ويردف: “وهل غادرني تاريخُ بحر عبَرته، أو حبيبة عشِقتُها، أو صانع رايات مشبوح، يرمق في احتضاره راياته المتهدلة تحت صواريها”.

ويسائل: “وهل جُبتِ بين الطوائف في ممالكها، أو تنفستِ ريحَ المعارفِ المحروقة، أو أُسِرَت حبيبَتُكِ”.

فتشرعُ في دندنة خافتة:

جيرونيكا

يا تِيه الموت عن مواقيته

جابَكِ الحرَّاسُ في زمنٍ

فما عُدتِ سوى زمن

وفي التاريخ عاد مشهدُكِ

يَسِمُ الأرحامَ بالوجع

ويصلُ الليلَ بالليلِ

ويكلل المحبوبَ بالأسرِ

فلا نوم

 ولا لوم

سوى نصل

يرنِّمُ في الساحات بالعشقِ

ويحمل في مقابضهِ

نسيجا غادر الأسرَ

ووحيا يُنبي بالوَصلِ

وبصوتها، تؤرخ العارفة لعُمرِ الحبيب.

ورنيم الصوت يُشجي، والنطق عاص.

ويسود حزن له سطوة النار، وفي بَراحِهِ النهاري، يطوف نون في أزمان غُرفته، وفي ليل الحبيبة.

وكانت في بُعدِها، أسيرة في ملكوت من حرير، والليل سادر، وصحراء ممزوجة بالهدوء، وريح، تمرُّ على ملامحها الغُلامية، تلهو بشعراتها القصيرة، وبعُرفِ الفرس المتأهب لها، يرنو إلى أفق مشيئتها، فتمتطي، تقبض بأصابعها الدقيقة على اللجام اللدن، تشده في رفق، وتضغط بساقيها على بدن الفرس، فيتقدم، رائق الخطو، وَلِعٌ بفارسته، يلج الليلَ المفرود لها، يَخُبُّ خَبَبَ العاشق الهائم في صحرائه، تُطعمُه بضَغَطَات تذودُ بها عن ذاتِها الشَّغُوفَة بالحبيب، فيبدأ الفرس يعدو، تنتبه ريحُ الليل، تلقَاهَا، تدفعُ عنها ثِقَل الوجعِ الكامِن، تحمل عنها خُصلات شَعرِها، وأطرافَ الثوب الممْسُوس بحكايات الفارس، وتجوز بها وبفرسها البيداءَ، وبرغبتها في الخروج من حيِّز الزمن المتاح لوجودها.

ينطلق الفرس عابرا اللحظات المهملة، وتواريخَ ما عادت تُجدي، وتصير الرَّملاتُ دربا، وحباتُ الصَّخر دليلا إلى حيث تُهوي الفارسةُ بفَرسِهَا، تفور الريح في صلابةٍ ليِّنة، تُطلق شعرات العُرفِ والذيلِ وروحَ الرَّاكبة إلى عنان سماء غير التي غادرت، تَهصُر بسَاقَيهَا بدنَ الفَرسِ المدوِّي في ليل وحدتها، فلا يملك لها عَنَتا، ويسري مثل شِهاب، يشرخُ الزمن المحيط، فلا يحسُّ السادرة في غي امتطائها، تملك الوجد، وولعَ الاختفاء في اللحظات المارقة من حولها، تفوت ببُراقِها في مجازات الليل والريح، والمفازة، ووجع الشوق، ولَهف لقاء حبيب ينتظر، تصير إليه، طائراً، يحلُّ في مكانه، وحرفا يَقرُّ في قلبه.

……………………….

* الفصل الرابع من رواية “مطارح حط الطير”

*اللوحة لبيكاسو

 

مقالات من نفس القسم