جبل الزمرد

عن جبل الزمرد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رابونزل

تموت كلماتي ما أن أنطق بها، لا تغادرني، تلاحقني أشباحها لمعاقبتي على جرم غامض.

في ماضٍ بعيد، كانت "رابونزل"!

لم يكن ثمة برج عالٍ أو ساحرة شريرة أو أمير وسيم. لم يكن ثمة فجل مسحور أو صوت يسلب العقل، وبالطبع لم يصلح شعرها كحبل يتسلقه حبيب ما إلى محبسها، لكنّ نادية كانت "رابونزل" الجميلة ذات الشعر الطويل وكانت رابونزل إياها.

 

حتى سن العاشرة امتلكت شعرًا طويلًا يصل إلى أسفل ظهرها، خصلاته بنية ضاربة للشقرة، تسير فتكاد تتعثر فيه، تتابعها أمها بفخر، وترمقها باقي الأمهات بحسد، وتخجل هي من العيون التي تتجاوز وجهها وجسدها متوقفة دائمًا لتأمل شعرها.

اعتادت أمها أن تتعامل مع شعر بناتها كمعيار وحيد تقيس به تفوقها على بقية الأمهات، ولسببٍ ما تحملت نادية وحدها مسؤولية أن تكون دليلًا على مهارة الأم وعلو كعبها. الأولاد في الشارع يقولون إنها جنية، ورغم هذا يقفون بالساعات أمام بيتها أملًا في رؤيتها حين تقف في الشرفة أو تخرج للحديقة، والبنات ذوات الشعر القصير ينظرن لشعرها بازدراء غيور، وهي رغبت في التخلص من هذا العبء. صرخت وبكت وامتنعت عن الطعام من أجل التخلص مما ليس في نظرها أكثر من حبال طويلة تقيد حركتها.

بعد ثلاثة أيام من الضغط المتوالي رضخت الأم مضطرة لتنفيذ مطلب “رابونزل”، ثم امتعضت حين رقصت الأخيرة مبتهجة، لم تتمالك نفسها، أشاحت بوجهها، وتحسرت على سوء حظها مع بناتها.

تخلت “رابونزل” عن شعرها فصارت تمتهن التخلي، وتتقن فن الخسارة، كان تدريبها المبكر على الهجر، ومع أنها لم تكن أجمل بشعرها القصير، لم تندم قط ولم تتأثر بتحسر أمها وأقاربها على جدائلها وقد أصبحت “ألا جارسون”، بسبب نزقها وتصميمها. لم يعاود شعرها النمو سريعًا، بل ببطء شديد كأنما ينتقم من صاحبته التي لم تكن مهتمة أصلًا. وصل إلى الكتفين بصعوبة بعد ثلاث سنوات من قصه.

تواصل حزن الأم طويلًا كأنها أم لهذا الشعر فقط، ولا يربطها بابنتها شيء غيره. تعجبت لأنها قامت بكل الطقوس اللازمة كي ينمو على نحو أفضل. قصته والقمر بدرًا، والتقطت الخصلات المقصوصة بحرص ووضعتها في كيس، ألقته في النيل مصحوبًا بأمنيات أن يكون الشعر الجديد أغزر وأجمل من سابقه. لم تغادر موقعها بجوار شجرة الصفصاف، المائلة أغصانها على مياه النهر بحنو كأنها تسجد له، إلا بعد التأكد من أن تيار الماء جرف الكيس معه. قامت بالطقس على نحو صحيح، لذا لم تفهم لماذا تأخر نمو شعر صغيرتها، استنتجت أن نبتة ورد نيل أعاقت جريانه، أو الاحتمال الأسوأ أن تكون إحدى جنيات النهر قد أخفته، ساعتها لن يعود كما كان أبدًا.

وحدها نادية فرحت بأن شعرها لم يعد يضايقها، وحرصت فيما بعد على ألاّ يطول عن حدود كتفيها.

لكنّ علاقتها بالتخلي لم تبدأ بقصه، إنما قبل هذا بأربع سنوات على الأقل. كانت في الخامسة من عمرها تلعب فوق سطح بيتهم بطائرة ورقية ملونة. الهواء يعابث شعرها فيكاد يخفي وجهها، ويدها الصغيرة تمسك بخيط الطائرة بأقصى قوة ممكنة، النيل وأشجاره والحقول المحيطة به تبين من بعيد وطيور الإوز العراقي البيضاء تكاد تلامس ماءه قبل أن تطير مجددًا، في حين ينقر طائر أبي قردان في تربة حقل مجاور. وهي كانت غافلة عن هذا كله لأن عينيها كانتا متشبثتين بالطائرة الورقية في رقصتها الصاخبة مع الهواء المشاكس.

سعيدة حد النشوة، ودت لو تطير مع الطائرة إلى ما لا نهاية، لكنها فجأة وبلا مقدمات تركت الخيط يفلت من يدها ووقفت تراقبها تبتعد عنها. لم تحزن ولم تندم، فقط ظلت ساكنة تتابع المشهد كاملًا. بتخليها عن الطائرة انتبهت لجمال منظرها على خلفية النيل بنباتاته وأشجاره، والحقول المحيطة به.

هي رابونزل! هذا ما أثق منه. غير أني لو اخترت لها شخصية أخرى، سأختار “ريميديوس”. سأقول لها بتأكيد: “أنتِ ريميديوس الجميلة”. وإذا نظرت إليّ مستفهمة، لن أُحدِّثها عن جارسيا ماركيز، ولا عن جميلته التي طارت إلى السماء. سأكتفي بكلمة واحدة: “كانت إياكِ”.

اعتادت الأم أن تغطي وجه ابنتها وهي رضيعة بقطعة شيفون شفافة، وحين تضبط أحدًا من أطفال العائلة يكشف وجهها ليحملق فيه وهي نائمة، توبخه، وتطلب منه الابتعاد. رأت ابنتها أجمل من أن تنكشف على الملأ هكذا لأعين الحاسدين والفضوليين. لكن لمّا كبرت نادية لم يعد من الممكن حجبها.

كانت تعود باكيةً من المدرسة، وتسأل لماذا يحملق فيها الآخرون؟ فتطلب منها أمها ألاّ ترد على نظراتهم. لم يخبرها أحد أن جمالها فائق، فكانت كلما دخلت مكانًا ولاحظت العيون المتجهة إليها تظن أن ثمة خطأً ما في هيئتها يدعو الآخرين للتحديق فيها. عندما تزور بيت أقارب بعيدين أو إحدى زميلاتها، تسألها أمها بمجرد عودتها، ماذا قالوا حين رأوكِ؟ لا تعرف كيف تجيب، ولا ما الذي يجعل رؤيتهم لها أمرًا ذا أهمية؟

عندما تنظر الأم لابنتها الأخرى يرتسم شعور بعدم الرضا في عينيها وعلى قسمات وجهها. “ارفعي راسك”، “افردي جسمك”، “ابتسمي، وشك مش ناقص”. تردد الأم لهذه الابنة بلا ملل. لكنها تبتهج حين تبصر نادية. حتى لو لم تعطف عليها، أو تمدح جمالها بكلمة، فعيونها كانت تفعل، وما كان يغيظ الشقيقة ويحجِّم من غيرتها في الوقت نفسه أن أختها لم تكن تكترث بهذا أو حتى تنتبه له. تمامًا كعدم اكتراثها فيما بعد حين كان المارة يتركون انشغالاتهم ويقفون متابعين نزولها من سيارة زوجها الأول كمال، أو خطوها الرشيق في الشارع بصحبة ابنتها هدير، إلا أن لا مبالاتها، في الحالة الثانية، كانت بطريقة الواثق من جماله، العارف به لا الغافل عنه.

الآن، في مهجرها البعيد، يخيل لنادية أنها غير مرئية. تتحرك بين الناس كظل تائه. لا أحد يعرفها، ولا تعرف أحدًا. تشتاق لابنتها ولحياتها القديمة وتستعيد تفاصيل لطالما ظنتها تسربت إلى عالم النسيان. صارت تخيفها فكرة أن تموت هنا، مقطوعة عن جذورها. بدأ هذا الانشغال بمداعبة عابرة سرعان ما تشعبت لتستحوذ على واقعها ككابوس.

“إذا متُّ فلا تدفنّى في هذه البلاد الباردة.“. قالت لزوجها بينما تسوي شعرها بيديها أمام المرآة.

قصدت مداعبته، إذ تعرف أنه يمتلك مزاجًا اكتئابيًا، كما لا يحتمل فكرة فقدها، وجملة مثل هذه ستجعله يقطّب جبينه، ويوبخها بعبارة آلية دون النظر إليها.

رغم مقصدها هذا إلا أن كلماتها خانتها وارتدت عليها، فلم تبصر فيها سوى مصيرها الآتي بلا ريب، لمحت ابتسامة ماكرة تلمع فوق شفتيه، فبدت لها نذير شؤم، ودلالة على تبدل أقدارها.

لأول مرة تفشل في توقع رد فعله. كانت واثقة من قدرتها على قراءة ما يعتمل بداخله، وتتعمد أن تضعه في مواقف بعينها لمجرد التأكد من عدم قدرته على الخروج عن السيناريوهات التي تتوقعها، إلا أن الرجل المبتسم أمامها بمكر وتشفٍ وضعها بقسوة أمام عبارتها القبيحة.

لم تنشغل قبلًا بالموت، وليست مؤمنة بما يكفى لتهتم بما سيحدث لها بعده، لكنها دون مقدمات وبعد أن اندفعت الكلمات السوداء، التي أرادتها لعوبًا من فمها، انتابها خوف طفولي، من إمكانية موتها ودفنها، سواء في مقبرة الحي الأشبه بحديقة عامة، أو في مقبرة عائلتها بقريتهم، التي لم تزرها في السنوات الأخيرة سوى مرات قليلة.. انتبهت لعبثية دفن إنسان في مكان لا علاقة حقيقية تربطه به.

كانت ستخضع لعملية جراحية طارئة، وأرادت التلذذ برؤية خوف زوجها وانزعاجه عليها، ولمّا لم ترَ هذا انزعجت هي. ركبت السيارة بجواره في طريقهما إلى المستشفى محاولة إبعاد وساوس المرض عن ذهنها: سيناريوهات متعددة تؤدي كلها إلى نتيجة واحدة، يخبر الطبيب مريضته مرتبكًا أنها تواجه مرضًا لا شفاء منه. “أمامك ستة أشهر” هذا ما يردده الأطباء عادة في الأفلام الميلودرامية القديمة، يتغير الممثلون والمخرج والديكور لكن الجملة لا تتغير، ومعها النهاية، حيث تحدث معجزة الشفاء دونما تقديم مبررات مقنعة.

رغم علمها بأن مرضها ليس بهذه الخطورة. تمنّت للحظات أن تختبر مشهدًا مماثلًا، فقط كي يشعر زوجها بأنه أخطأ عندما ابتسم بمكر ساخر هكذا.

جلست في الكرسي المجاور له بينما يقود السيارة وهو يدندن بأغنية مرحة، قبل أن يرفع صوت الكاسيت ويصمت تاركًا المجال لـ”بينك فلويد” وأغنيتهم “الجانب المظلم من القمر”، رمقته بغضب كأنه تعمد اختيار أغنية موجهة ضدها، لتضخيم مخاوفها الوليدة. تشاغلت بالنظر عبر النافذة إلى المدينة، زجاج السيارة كان يحجز البرد القارس في الخارج. وصوت الـ”بينك فلويد” يتعالى من أغنية لأخرى دون أن يبدد هواجسها.

السيارة المسرعة نقلتها إلى زمنها الماضي، إلى الطفلة ذات الثماني سنوات التي كانتها، وصدقت أن نبتة قمح عملاقة سوف تنمو داخل أذنها، وتخترق جذورها طبلة الأذن لتفقدها سمعها نهائيًا.

كانت تلعب في إجازة الصيف فوق كومة القمح في شرفة بيتهم. ترمي نفسها في بحر حبوب القمح وتتدحرج فوقها. حاولت الوقوف على يديها: رأسها للأسفل، وقدماها للأعلى. اختل توازنها ودُفِس رأسها في كومة القمح الأشبه برمال متحركة. قامت مسرعة تنفض حبات القمح عنها، خاصة ما تسرب منها إلى أذنها. تخلصت منها جميعًا باستثناء حبة مشاكسة استقرت في تجويف الأذن اليسرى. خافت أن تبكي أو تصرخ كي لا تعاقبها أمها على شغبها الدائم.

خرجت إلى الحديقة حيث أشجار البرقوق والليمون وتكعيبة العنب. قضت ساعتين في اللعب القلِق من غير أن تنسى الحبة المستقرة في أذنها، حين عاد والدها الذي يتواطأ معها ضد الجميع، أخبرته بما حدث. طلب منها أن ترتدي ملابس الخروج فورًا كي يصطحبها إلى الطبيب. أكد لها أن حبة القمح لو تُرِكت، سيطالها الماء، وسوف تنبت ممتدة أفقيًا للخارج. أو قد – وهذا هو الأسوأ – تخترق جلدها وأنسجتها مستطيلة رأسيًا بداخلها. أرعبتها الفكرة.

سارت بجواره وهي تغالب دموعها. قالت بميلودرامية إن هذا ربما يكون يومها الأخير، فأمّن على كلامها بهزة من رأسه وهو يقاوم الضحك. شعرت بالأسف من أجل حياتها التي بدأت بالكاد وها هي ستنتهي في لمح البصر، فكرت أنها يجب أن تصالح شقيقتها التي خاصمتها لأنها لم توافقها على أن الفأر جيري أكثر ذكاءً من القط توم. كما عليها أن تخبر أمها أنها من كسر برطمان مربى المشمش لأنها لا تطيق مذاقها.

بما إنه يومك الأخير، إيه رأيك أعزمك على سباتس وجيلاتي؟”

سألها أبوها، فنظرت له بلوم ولم ترد. لم تفهم لماذا لا يبدي بعض القلق عليها طالما أكد لها خطورة حالتها. سحبها من يدها إلى “كافيتريا” مجاورة. طلب لها زجاجة سبيروسباتس كولا، و”أيس كريم” فانيليا، وتابعها مبتسمًا.

جلست تغالب توترها، بفستان أحمر قصير مُزَيَّن بالدانتيلا البيضاء، وبشعر ملموم للخلف بمحابس صغيرة ملونة على شكل زهور وفراشات وقلوب صغيرة، أزاحت زجاجة سبيروسباتس جانبًا، وبدأت في تناول “الجيلاتي” وهي تتأمل لافتة تحمل اسم الطبيب فوق واجهة المبنى المقابل. بدا أبوها مستمتعًا لدرجة ضايقتها، ومنحازًا لإيقاع بطئ لا يفضله عادةً.

يعرف أنها تكره الأطباء، وترتعب من الحقن والأدوية، غير أنها – في لحظتها تلك – كانت تتعجل الذهاب للطبيب، وتكره إصرار أبيها على تأخير هذه الخطوة. ندمت على أنها لم تخبر أمها بما حدث لها.

في النهاية اتجها إلى العيادة. ضحك الطبيب حين علم بقصة حبة القمح، وقرصها من خدها مداعبًا ثم أعطاها شيكولاتة. رفعها لتجلس فوق الكرسي العالي، واقترب منها بأداة لم تتبينها لأنها أغمضت عينيها خوفًا وجزَّت على شفتها السفلى. شفط القمحاية دون ألم يُذكر. وساعدها على النزول. لم تصدق بساطة الأمر، ولم تسامح أباها على سخريته منها.

الآن وبعد هذه السنوات الطويلة، وبينما تتجاهل الأغنيات المنطلقة من كاسيت السيارة، وترنو لناطحات السحاب الأنيقة والمارة المسرعين في الوسط التجاري لمدينة يخترق بردها العظم ويترك آثاره في الروح، راودتها أحاسيس مشابهة لما مرت به قبل الذهاب إلى الطبيب وهي طفلة، عادت صغيرة يقوم زوجها بدور أبيها في إغاظتها ببروده وسخريته، أمالت رأسها جانبًا، وضعت كفها أسفل أذنها، واستغربت عندما لم تسقط منها حبة قمح. التفت إليها زوجها متسائلًا عمّا تفعل، فطلبت منه بما يشبه الرجاء… “ممكن ناكل أيس كريم ونشرب حاجة ساقعة قبل ما نروح للدكتور”!

في تورنتو، حيث المستشفى بالغ النظافة والنظام أخبرها طبيب أشقر بابتسامة جذابة ونظرة ساخرة أنها تحتاج إلى عملية جراحية صغيرة في الرحم، لا تستدعي كل هذا الخوف البادي عليها.

“كفاية سخرية بقى”.

خرجت من العملية سالمة، لكن فكرة الموت لم تغادرها، بل عششت داخل جسدها الجميل، ولوَّنت رؤيتها للعالم. حاولت طمأنة نفسها، غير أن استعادتها لرد الفعل البسيط وغير المتوقع لزوجها كان يُدخِلها في موجة كآبة لم تستطع التخلص منها بسهولة.

استعصى عليه فهم أسباب اكتئابها، بالغ في تدليلها والاهتمام بها، اصطحبها ليبتاع لها هدية تختارها بنفسها. استسلامًا لموجات حنين شرعت تداهمها بلا سابق إنذار، رغبت في القبض على بعض من ماضيها، اختارت خاتمًا مزينًا بفص من الزمرد شبيه بالذي كانت تملكه وضاع منها، وتمنت أن تجد أي قطعة مجوهرات على شكل رأس المسيح لكنها لم تعثر عليها.

عادت مع زوجها إلى منزلهما تكاد تطير من الفرح بخاتم الزمرد، لم يفهم سبب سعادتها الفائقة، إذ سبق وأهداها هدايا أثمن لم تسعدها بالقدر نفسه، لكنه ارتاح لاستعادتها كثيرًا من ألقها المحبب له.

أما هي فكانت ترفل في دهاليز زمن بعيد حملت فيه رأس المسيح!

أو لو شئنا الدقة، تزينت فيه لسنوات بسلسلة ذهبية بها “دلاّية” على هيئة رأس المسيح، اشترتها مع خاتم الزمرد الذي أضاعته هدير.

كانت في سنتها الجامعية الأولى في القاهرة في الثمانينيات، طالبة غريبة تتعرَّف على المدينة وتتحرك فيها بمزاج سائحة ترسم بخطواتها خريطة متخيلة لمدينة تخصها وحدها. أخذتها قدماها إلى محل ذهب في شارع متوارٍ خلف جامع السلطان حسن على واجهته لافتة: “مصوغات جورج”. وقفت تتفرج على الحلي الذهبية المعروضة في “الفاترينة” فخطفت السلسلة المنتهية برأس المسيح انتباهها. في البداية لم تدرك لمن الوجه، ظنته لفيلسوف يوناني: أفلاطون مثلًا أو سقراط.

دخلت المحل، وأشارت إلى السلسلة التي ترغب في شرائها. للحظة بانت علامات الاندهاش على وجه الصائغ الأبيض السمين المزينة أصابعه بخواتم ذهبية عديدة. رمق رسغها الأيمن فلم يجد وشم الصليب عليه، فتهلل وجهه وراح يمدح تسامحها وتحضرها، الأمر الذي نبهها لماهية الرأس.

باع لها السلسلة بخصم جيد. وضعتها حول رقبتها على الفور، وراحت تتفرَّج على الخواتم والأقراط المعروضة داخل المحل. طمعًا في كسب زبونة جديدة، فتح الصائغ خزانة مجاورة وأخرج تشكيلة من الخواتم قال إنه لا يعرضها إلاّ على زبائنه المفضلين.

فَرَد التشكيلة على زجاج مكتبه طالباً من نادية إلقاء نظرة عليها. تجاورت خواتم مزينة بفصوص من الماس، الياقوت، والفيروز، وفي وسطها خاتم بفص زمرد خطف بصرها. تأملت زمردته بشغف، ارتدته فبان خلاّبًا في بنصرها. المال المتبقي معها لم يكن يكفي لشرائه، فباعت للصائغ خاتمًا وسوارًا كانا في يدها اليمنى.

تمنت أن يشاركها معارفها انبهارها بخاتم الزمرد، لكن لم ينتبه له أحد، وركزوا جميعاً على السلسلة المنتهية برأس المسيح. بعضهم تأملها بدهشة. وهناك من سألوها عن ديانتها رغم معرفتهم بها، أو قالوا باقتضاب إنها غير ملائمة، في حين تقربت منها زميلاتها المسيحيات بفضول مشوب بالامتنان.

وهي شعرت بالخذلان قليلاً لأنهم لم يقدروا خاتمها الزمردي حق قدره.

كان الخاتم الجديد الذي اشتراه لها زوجها يشبه القديم لدرجة كبيرة، شعرت أنه يمنحها درجة أعلى من الانسجام مع محيطها. هو وحوض أسماك الزينة، والمرايا العديدة التي تكسو الجدران، ونباتات الظل داخل المنزل وأشجار ونباتات الحديقة منحوها الكثير من التناغم، وقللوا من إحساسها بالغربة، واحتياجها إلى الدفء، بمعناه الحرفي، في أجواء بالغة البرودة لم تعتدها بعد.

 

*فصل من رواية “جبل الزمرد”

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون