وصفني صديقي الشاعر كاظم الحجاج في مداخلةٍ له ألقاها في جلسة احتفاء سابقة بالناجي من الحروب. أظن أنني نجوتُ من الهرب أيضا، فالهربُ هو اللونُ الآخرُ للحرب، ومعلقةُ بلوشي هي معلقةُ هرب. ليس للهرب فرقٌ بين ما هو فوق وما هو تحت. كلاهما هرب. هو هربٌ جمعيٌ للحياة. الهربُ حالةٌ في منطقةِ صراع، ومَنْ يريدُ معرفَتَها عليه أن يذهب إلى تلك المنطقة.
من الواضح – وهذا ما مكنني الهربُ من فهمه أنني لم أسع الى احساسٍ تعويضيٍ في تدوينِ هذه الرواية، لم أصممْ تفريعاتٍ للهربِ وفقاً لأهواءِ الهاربين. يقول فيتغنشتاين:”كل شيء يحدث هو العالم”، بمعنى أن :”العالم هو الحالة”. لا يوجد شيء سوى حالات، وكل ما هو كائنٌ هو حالاتٌ فقط. لكنَّ الهاربَ لا يعي ذلك، رغم أنه لا يعرضُ نفسه كشيءٍ ستاتيكيٍ في الرواية، لأنه لا يدركُ ضياعَ الزمنِ من حوله، ولا يملكُ حلا له سوى أن يضيعَ معه. ربما لأنه أخفق في إدراج الحرب على سجل المعقولات، وربما لأنه ابتلى بمتلازمة طابور الاعدام. وربما لأنَّ المدنَ لفظته، فبات بندولا. أينما يتأرجح سيبدو هاربا وان في السِلم. سيظلُ هكذا سائرا الى الخلف، عكس المخلوقات، في فوضى ذلك الخرابِ المريح!
الهاربُ في “معلقة بلوشي” لا يعرفُ بدايةَ هربهِ ولا النهايةَ التي سيوصلُهُ الهربُ إليها، لأن عزلَتَه تنبع من خَيارِ الحربِ باعتبارها أحدى أهمِّ شروطِها وليس من خيارٍ عقلي. هو كائنٌ مسلوبُ الهُوِية. هو يعي ذلك، لذلك يُباشر مبكرا في عملية الاستخلاص ويصفُها بتوطئةٍ حسيةٍ مضغوطة، يستنتجُها من هَوَسِه، من تلك الطيورِ التي لا تحلِّقُ عاليا ولا تريدُ أن تتعفن في دركِ الحروب.
هنا، الهربُ كوجهٍ منعرضٍ أمامي يبدو كحلٍ غاصب. صورةٍ مشوهةٍ من صور الهلاك. هو أعوصُ الحلول لأنه موتٌ يتذرعُ بالعيشِ في عالمٍ سُفلي، لا يحققُ للهاربِ سوى الذيوعَ في متاهاتِ الرعبِ التي لن تتوقف حال افتتاحها. ان البلدَ المنتجَ للحرب، لن يذهب أبعدَ منها، حتى لو تحول من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، فالعقلُ الذي صنع لعبةَ الهاربِ والزنبور، لن يَحيدَ عن ممارستها، سيبقى متباهيا بها، تلك هي سنَّةُ الحروب.
يقولُ الفرنسيُ باسكال:”تنشأُ كلُّ مشاكلُ الإنسان من عدمِ قدرتهِ على الجلوسِ وحدَه في غرفةٍ هادئةٍ لفترةٍ كافيةٍ من الزمن”. لكنَّ مهزومي المعلقةِ في تضادِّهم مع الحرب غدوا متفقين مع شرطِها العزلوي، مدهوشين به. التفاعلُ هنا ستعبِّرُ عنه اللغةُ الجنينيةُ للهرب باعتبارها أصدقَ لغةً ممكنة.
ولكن ماذا بعد؟ انَّ سؤالاً مُمتَعِظاً كهذا يبدو وكأنه يبحث عن جهوزية حلٍ هَرَبَ هو الآخر من ادراك الهاربين جميعا، فحلَّ بدلا عنه سؤالٌ آخر: هل تسمع تصدعا غريبا في أعماقك؟ انفصال غامض، كأنك تشهد طريقة للتوالد اللاجنسي، كأَّنك كائنٌ وحيدُ الخلية ينشطرُ إلى جزئيين. يشهدُ عملية انفصال في منطقةٍ رخوةٍ من الروح. ستتحول بعد حين من كائن إلى كائنَين، من هارب إلى هاربين.
أخيرا، في متواليةِ الهربِ هذه، يبدو أنني نجوتُ من الهرب ولم أنجو، لأنني سأضطرُ الى اعادةِ النظرِ ثانية في تَرِكَته الثقيلة، وسأهرُبُ بعيدا داخلَ الهربِ ذاته، وهكذا أجدني في نهاية اللهاث ضائعا في التيهِ مرةً أخرى!
………………………..
* شهادة روائية ألقاها الكاتب في جلسة الاحتفاء به التي أقامها نادي السرد في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بمناسبة صدور روايته “كم أكره القرن العشرين – مُعلَّقة بلوشي”