في غرفة العنكبوت .. بئر العزلة!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد العاطي


في عمله الأخير "في غرفة العنكبوت"، يقدَّم الكاتب "محمد عبد النبي" لروايته بمقتطف معبّر لفريد الدين العطار –الشاعر الفارسي والمتصوف- من كتابه الأشهر "منطق الطير":
(هام أحد السادة على وجهه بعيدًا عن أسرته، وساءت حالته من عشق صبي يبيع الفقاع*، ومن فرط عشقه ذاعت قالة السوء عنه، وكانت له ممتلكات وضياع فباعها واشترى بثمنها فقاع...)


كعتبة للنص ينطلق الكاتب إلى الحدث المحوري، أو حالة النص العامة،
فأن تستعين بموضوع “المثلية” كمركتزٍ أساسي في بناء الرواية هو مما يُحسَب للكاتب بلا شك. ولعل من أشهر ما كُتب عن المثلية كان في رواية “بئر العزلة” للكاتبة الإنجليزية “مارجريت رادكليف هول” والتي حظرتها المملكة المتحدة عام 1928، ليتم نشرها مرة أخرى بعد وفاة المؤلفة بستة أعوام. الأمر الذي واجهت لأجله انتقادات واسعة من قِبل رئيس تحرير صحيفة صنداي إكسبريس اليومية فقال: “أفضِّل أن أعطي أي شاب أو فتاة زجاجة من حمض الهيدروسايانيك فيتناولها وتنتهي حياته قبل نشر هذه الرواية”. وعلى الرغم من أنها من الناحية النظرية، لم تحمل إلا مشهدًا وحيدًا جنسيًا، يتألف فقط من بضع كلمات: “وهكذا في هذه الليلة لم نكن منفصلين”، فقد رأت المحكمة قصدية فحشه. وكانت هذه الرواية، وعلى مدى عدة عقود، الأكثر شهرة وتعريفًا بموضوع المثليّة الجنسية النسائية “السحاق”.

لذلك قد يتصور البعض أن الاستعانة بالمسكوت عنه هو شجاعة مفرطة من الكاتب، والذي قد يكون محض تصوُّر جمالي لنظرة الكاتب الخاصة للعالم. كما أُشيع عن “هول” أن أهدافها كانت سياسية واجتماعية في آن، لأنها أرادت إنهاء حالة الصمت العام والشعبي تجاه المثلية الجنسية، مع خَلْق شعور أكثر تسامحًا وتعاطفًا مع المثليين جنسيًا. ثم لم يتوقف الأمر بالنسبة لـ “هول” عند ذلك الحد، ومنحتها الرواية انتشارًا أوسع، بعد ظهور ثلاث روايات أخرى تتحدث عن المثلية في العام ذاته الذي نُشرت فيه “بئر العزلة”، وساهمت المنازعات القانونية حول الرواية في صعود الرؤية العامة للمثليّات في الثقافة البريطانية والأمريكية. وكان هذا انتصار “هول” الأعظم، بعد انتشار الرواية.

ورواية “في غرفة العنكبوت”، وإن لم تزل تحت طور الانتشار، ولم تتركز حولها رؤى النقد بشكل أوسع، إلا أنها في ظني ستحقق منحى مهمًا تجاه ذلك النوع من الأدب، لولا فقط التناول البطيء لقراءة مثل تلك الروايات، خاصة وأنها لا تزال تدخل في مناطق الممنوع لدى القراء العرب.

 في البداية تستمد الرواية عنصرًا مميزًا لخط الكاتب السردي. فيبدأ الحدث بلحظة ساخنة حينما يتم القبض على “هاني محفوظ” بطل الرواية والذي تبدأ ميوله الأنثوية في الظهور كفلاشات تضمينية في ثنايا النص. تقلباته المزاجية الشهرية كمثال. أو غير تضمينية كلعبِه للدور السلبي والطرف المستقبل في العلاقة. ما جعل الشعور بتقلبات الشخصية الرئيسية عاطفيًا، شيئًا يؤخذ في الاعتبار. شيئًا جماليًا يتم التركيز حول أسواره غير العصية على الفهم، والتواصل مع ما يحدث من اضطهاد للبطل بُعَيد القضية الشهيرة؛ قضية “الكوين بوت” أو “مركب الملكة ناريمان” مطلع القرن الجاري، والتي ألحقت ضررًا كبيرًا بأقارب المقبوض عليهم، وتم فضح البعض بأن نشروا أسماءهم في الجرائد، بعد اتهامات عبثية أودت بهم لما وراء الشمس.

يقول هاني محفوظ في إحدى مونولوجاته الكاشفة لطبيعة الأمر داخله: “المرة الأولى التي دخلني فيها رجلٌ ما. كان ألمي مختلطًا بالرعب من أن تصل أمي فجأة، وبلذة امتلاكي لرجلٍ أخيرًا. لم أشعر بالمرة أن شيئًا في داخلي انكسر أو أنني فقدتُ معنى كبيرًا كالكرامة أو الشرف أو الرجولة، بل كان العكس هو ما حدث، كأنني استعدتُ شيئًا كان ضائعًا مني، التأم كسرٌ ما، مثل دمية مكسورة رُزقَت بمن يضم أجزاءها معًا، فعادت إليها الحياة، وصار بوسعها الآن أن تتكلم وتتحرك وترقص وتغنّي.”

وهذا مما يُحسب للكاتب في ظل الكتابة داخل الكتابة، رغم استهلاكية الفكرة، إلا أنها لغة الرواي في كل الأحوال، ولا تكتسي إلا حليتها، وصبغتها الخاصة المعبرة، أدبيًا وفنيًا وإنسانيًا، هنا –في الإفصاح السابق- طبيعة وأصل الإحساس يستمده الكاتب من لسان شخصيته، فيجعلها ناطقة بشعورها تجاه الأمر، دون تزجية لزوائد أدبية، أو زخارف لغوية، قد تؤخذ على النص فيما بعد. بنسيج ملتئم وواضح، يتتبع حياة البطل في نشأته، ونضوجه ومواجهة حيرته، وتلاشي صورته في فضاءات شخصيات أخرى. تارة الأم بشكل خاص، فاعلة بخيط أساسي في طريقة بناء الشخصية وتفاعلاتها مع صورة الأب. ورأفت المؤثر الأول ومزكي الشعلة الأولى. عبد العزيز، الصعيدي الأسمر، ومفجّر كوامن الحب. شيرين زوجته، القربان الذي قُدِّم على مائدة دحض الشكوك. أكثم البرنس، الأب الروحي للحبايب كما يحب أن يُطلق عليهم. ولعل بوسعي القول أن الرواية شأن رواية “هول” في اختفاء البطل وراء الأحداث، والرغبة في استكشاف العالم من خلال الآخرين، واختفاء التطلعات الجادة. كما هو الأمر مع “ستيفن ماري” شخصية “بئر العزلة” الأساسية، بعدما بلغت عامها الحادي والعشرين، وقعت في حب “أنجيلا كروسبي” زوجة جارهم الجديد الأمريكية، وبدورها كانت “أنجيلا” تتخذ ستيفن علاجًا ضد الملل، وكانت تسمح لها بعدة قبلات. بعد ذلك انتقلت ستيفن إلى لندن، وكتبت روايتها الأولى ولاقت ترحيبًا شديدًا، وهناك فعّلت “ستيفن” أول اتصال مع الثقافة المثلية الحضرية عندما تعرفت على “فاليري سيمور” وكانت تستضيفها في صالونها الأدبي، وهي مثلية مثلها، وانضمت ستيفن أثناء الحرب العالمية الأولى إلى الوحدات المتنقلة، وخدمت بعدها في جبهة القتال واستحقت نيل جائزة لاكروا للحرب، وهناك ارتبطت بعلاقة حب مع صديقتها الشابة في العمل “ماري لويلين” والتي عاشت معها بعدما انتهت الحرب، في البداية كانوا سعداء، ولكن ماري بدأت تشعر بالوحدة عندما عادت ستيفن إلى هوايتها في الكتابة، وعليه فقد عادت ماري إلى حياة المثلية الجنسية الليلية، والتي رفضها المجتمع الفرنسي المهذب في ذلك الوقت، واعتقدت ستيفن أن ماري تشعر بالبرود والمرارة تجاهها، وأضافت ستيفن أنها غير قادرة على توفير حياة “طبيعية وأكثر كمالًا”. لعلنا نلاحظ ذلك التشظي بين الشخصية الرئيسية وتنقلها بين حيوات الشخصيات الأخرى. إلا أن الأمر مع “هاني محفوظ” قد يختلف بشكل ملحوظ في أحداث الاضطهاد، والألم النفسي الواقع على كاهل البطل والذي اتخذ مساره بميكانيزم عضوي، فأُصيب بالخرس. حتى ليظهر ذلك التقافز بين أحلام هاني محفوظ عن ذاته، والصورة التي أطّرها لذاته في وجوه الآخرين في مشهد هو من أجمل مشاهد الرواية، حينما يرى سبوعه كطفل في الحلم. شيئًا خفيًا في أقمشة ملفوفة حوله، ليفك الطبقات المتتابعة دون أن يجد نفسه، أو صورته كطفل “لم أر شيئًا بين لفات القماش، لا جسدًا ضعيفًا ولا وجهًا مثل وجوه القطط المغمضة الرضيعة”.

فضلًا عن ذلك، ينشغل السارد بطريقة ذكية في عرض الأحداث، كنقاط التقاء بيت العنكبوت. يتصل الخيط بأخيه في طريقة مقابلة ومميزة وواضحة حتى ليهيأ للرائي أنها بُنيَت بحرفية صانع ماهر. تتابُع اتساع الفجوات من المركز والذي يقع فيه تمامًا “هاني محفوظ” إلى الأطراف وهي الأحداث المصاحبة، والتي جعل الراوي منها نفسه حدثًا في حد ذاته، ناظرًا إلى حد ما بأنانية لما لحق به. تلك طريقة تميز نسج العنكبوت وحده. طريقة ابتدعها ذلك الصديق الصغير في درج “هاني محفوظ”.
 “
امشِ يا هاني، لا تتوقف عن المشي، لو توقفت تتجمد وتنتهي. امشِ بسرعة كالمطارد، هاربًا من الحكايات كلها، القديمة والجديدة، الحكايات نفسها التي تلاحقها الآن هذه السطور. في النهار، ترسم صورك القديمة بأكبر قدر ممكن من الصدق، وفي الليل تمحوها، متخيلًا نفسك شخصية أخرى، غريبة عنك، فتحاول أن تتصرف وكأنك ذلك الغريب. رجلٌ طبيعي تمامًا، مثل هؤلاء جميعًا. أهم طبيعيون حقًا؟ ماذا يُخفون وراء تلك الوجوه والجماجم؟ من هو الشخص الطبيعي أساسًا، كيف يكون؟ هل أولئك الذين عذبونا وأهانونا طبيعيون؟

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم