الجو كان حارا, كنت اظنه اغسطس او ربما يوليو, المترو الذي تطل عليه غرفة الجلوس يهز البيت هزا خفيفًا. حين يقترب من النافذة متجها اللي المحطة القريبة, شعرت يومها ان ريقي حار جدا نظرت للوحة المعلقة وثبت نظري عليها, حاولت ان ارسمها لكني تحولت الي رسم ابنه عمتي دون اسباب واضحة ,كانت تصغرني بأربعة اعوام اي انها كانت في الرابعة. رسمتها منهمكة في البكاء ووجهها متدلي اللي اسفل كأنها تحمله بيدها. بينما قطرات الدموع تتساقط علي صفحة الورقة علي شكل نقاط سوداء ضخمة
جاءت جدتي من المطبخ اعطتنا البسكوتات المخروطية الشكل اخذنا نتابع الرسم ونلعق الايس كريم..فجأة انزلقت الكرة الباردة المثبتة في فخذي فلوثته. أحسست بحرج بالغ امرتني جدتي ان اذهب لاغتسل غسلت رجلي وبللت اطراف الشورت القصير فشعرت بالخجل من نفسي. كانت ابنة عمتي تبدو اجمل كثيرا بفستانها النظيف المنفوش وشعرها المنسدل. كنت ابدو كصبي ارعن لا يجيد شيئأ كانت جدتي تحنو كثيرا علي ابنة عمتي التي ماتت امها فكسرت قلبها ,وتركت لها رضيعة يتيمة, بينما كانت تحنو علي بشكل اقل لان ابواي مطلقان فقط! هكذا هي قسمة البشر ان يحصل ابناء اليتم علي نصيب اكبر من ابناء الطلاق. انتهيت من الرسمة، رأت جدتي ما رسمت فوبختني بعنف شديد: راسمه “اسمت” بتعيط ليه؟ يا رب ما تعيط ابدا
دفعت الورقة في صدري ثم قالت ارسميها تاني…ارسميها بتضحك!
اخذت ارسم مرة ثانية وفشلت كنت اشعر بخزي شديد كم هي الحياة غير عادلة بعضنا يحصل علي شعر طويل مسترسل يغطي جبهته وام ميتة. والاخرين لا يحصلون الا علي هيئة صبيانية واباء مطلقين! جاء جدي من الخارج كان يبدو فلاحا مهيبا طويل القامة اخضر العينان. يرتدي بذلا صيفية انيقة ويمسك احيانا بمنشة لطرد الذباب عنه. فقال لنا مداعبا :ايه الاخبار لم يكن ليلمس احدانا لا اتذكر لمسته في الحقيقة ولكن اذكر كفيه الضخمتين. وقف جدي امام الحوض ليغسل وجهه وأسنانه. اخرج جدي طاقم اسنانه ومرره تحت الماء غسله بالفرشاة والمعجون ثم اعاد وضعه في فمه مرة اخري!
كان هذا حدثا خارقا لي حاولت نزع اسناني مرارا وفشلت حاولت ان ابصقها مع الماء او احركها يمنه ويسرة لعل بها حيلة لأخرجها وفشلت. جدي الخارق هو الوحيد الذي يستطيع اخراج اسنانه من فمه.. لم اكن اعرف انها نهاياته بعد ان سقطت اسنانه جميعها.
جلست جدتي في الصالة تقطع قرون الفاصوليا الخضراء بينما الخادمة في المطبخ كانت جدتي ذات الاصل التركي بضة وجميلة ونظيفة الرائحة امرأة مثيرة لكنها .كانت حادة الذكاء تضع بجوارها دوما البدارة ماركة الخمس خمسات وماء الكلونيا من نفس الماركة. تراقب جدتي الخادمة واحيانا تدس عليها بعض اعواد الثقاب تحت طاولة السفرة لتعرف هل مدت الخادمة يدها ونظفت الارض كلها ام جزءا فقط منها. ولتعرف هل تكذب الخادمة ام تقول الحقيقة. احببت جدتي رغم قسوتها في ذلك اليوم الذي لم اغفره لها. لم اغفر لها حنانها علي ابنة عمتي. لم اغفر لها ان شعري قصير. لم تفهم وجعي. لم يكون بإمكاني إزاحة خصلات وهمية علي جبهتي كما لم يمكنني ازاحة امي لأحصل علي جدتي!
مات جدي بعدها بأيام في غرفة صغيرة علي سرير صغير استبدلته جدتي مع الوقت بمكتبة اختفي جدي كما اختفت عمتي. رحل العملاق المهيب لنزرع خلفة مكتبة ورفوفا للأسطوانات الموسيقية التي يعزفها عمي الشاب. بقت جدتي بعده وحدها لسنوات وكأسرة برجوازية اللي حد ما لم نعبر عن فداحة الرحيل بصراخ وعويل وجلسات عزاء تمتد كثيرا. كان الرحيل هادئا وقورا.
سنوات اخري ولحق ابي بأخته وابيه. ورحلت جدتي ايضا. لم تعد اللوحة موجودة علي الحائط لم يعد يعطينا احد الايس كريم. صرت صديقة الان لابنة عمتي شعري اصبح اكثر طولا يمكنني حتي ان اجعله يلامس وسطي . بينما فضلت ابنة عمتي ان تقصه قصيرا. الان هي اكثر شبهها بجدتي بضة وجميلة مثلها كأنها نهلت من روحها. وانا اصبحت اشبه جدي مهيبة قوية الشخصية اتظاهر بقسوة القلب ورثت لون عينيه وحدته. لكن لا يمكنني ان اخلع اسناني بالطبع.
خاص الكتابة