الفقرة السابقة من رواية السفينة للكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، (1919 – 1994)، وهو مؤلف ورسام، وناقد تشكيلي، فلسطيني من السريان الأرثوذكس الاصل ولد في بيت لحم، وكلمة جبرا آرامية الأصل وتعني الشدة والقوة. وأظن أنه من بين الأسماء التي يتوجّب علينا إعادة اكتشافها بين الحين والآخر، عسى ألّا نكتفي بالمضي في تيار اللحظة الحاضرة والجديد الذي تضخه دور النشر كل يوم، بصرف النظر عن قيمته وصالحيته للقراءة.
يعرف كثيرون جبرا إبراهيم جبرا كمترجم كبير، نقل للعربية رواية وليام فوكنر الصخب والعنف، وكذلك التراجيديات الكبرى لشكسبير. وقد سبق لي أن قرأت له عملين، يمكن إدراجهما تحت تصنيف السيرة الذاتية، وهما البئر الأولى وشارع الأميرات، وفتنتي لغته وحيوية نثره وروحه النضرة في الكتابة. ثم كانت السفينة هي أول رواية أقرأها له، وقد نشرت عام 1970، بعد روايتين أخريين له، وأعيد نشرها قبل سنوات قليلة عن سلسلة أفاق عربية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر.
إننا في مكانٍ برزخي متحرك، سفينة تضم مجموعة من المسافرين من بيروت إلى إيطاليا. يتواتر على السرد شخصان رئيسيان، هما رجل الأعمال الفلسطيني وديع عسّاف، والمهندس العراقي عصام السلمان، وقبيل الفصلين الأخرين، وعلى سبيل الاستثناء تنضم إليهما الإيطالية إميليا فرانتزي، لفصل واحد فقط بصوتها. غير أن شخصيات أخرى تساهم بأصواتها كذلك في لعبة المرايا السردية إمّا من خلال الحوار، وهو الآلية التي يُعتمد عليها كثيراً في رواية السفينة، أو من خلال رسائل، مثل رسالة الانتحار التي تركها دكتور فالح لزوجته الجميلة لُمى قبل إنهاء حياته.
في البداية يبدو الأمر وكأنّ جماعة المسافرين هؤلاء لم تجمعهم على ظهر هذه السفينة إلا المصادفة وحدها، لكننا نتبين، مع تقدّم السرد، إن ثمة خيط واتفاقات – بل ومؤامرات – ليتتبع كلٌ منهم الآخر، انطلاقاً من رغبات مختلفة وعلاقات عاطفية متشابكة ومعقدة.
في تلك الجزيرة المتنقلة، السفينة، وعلى خلفية من تقلبات البحر والموج وتغيرات وجه السماء، نرقب خلفيات كل شخصية وأهم محطات ماضيها ونقاط التماس بينها وبين بعض الشخصيات الأخرى في الرحلة، كما نرصد كذلك موقفها المعرفي وأسئلتها الوجودية ونوع الحركة الذي يشمل وجودها، مم تهرب؟ إلامَ تسعى؟ وفي تقابلات المرايا تلك، تبرز صورة وديع عسّاف – مثلا – بعزمه وإصراره في المحبة والكفاح والعراك، وصلابة مواقفه، وارتباطه شبه الديني بأرضه وحلم العودة إليها، في مقابل صورة د. فالح، الذي فقد المعنى والجدوى ويناوشه هاجس الانتحار ليل نهار إلى أن يستسلم له على السفينة في نهاية الأمر. بالطبع إلى جانب الشخصيات الأخرى، ذات التكوين المختلف، والمرسومة بوضوح وقوة، والتي تعرف – غالباً – كيف تعبّر عن نفسها في حوارها بمنتهى الجزالة والأناقة، وتدير مجادلاتها الأيديولوجية والفسلفية مع رفاقها من المسافرين الآخرين.
في بؤرة هذه المجموعة تبدو لُمى وكأنها نقطة ضوء خاطفة، بين زوجها د. فالح العاجز المحاط بأشباح العدمية وحبيبها القديم عصام، وحكايتهما معاً التي لم تنته بعد، بدليل أنها تبعته إلى هذه الرحلة لتكون بالقرب منه. لُمى العراقية المثقفة شعلة الجمال اللاهب التي تجذب الأعين والنفوس حولها كأسراب الفراش، ما إن تظهر في السرد حتى يخفت ويشحب كل ما عداها، ولعلّ مشهد رقصها على أغنية لأم كلثوم، فوق سطح السفينة من المشاهد التي لا يمكن نسيانها في هذه الرواية، وأثر رقصتها تلك على كل شخصية من الشخصيات المحيطة.
غير أن رواية السفينة حافلة بالشخصيات والمشاهد التي لا يمكن نسيانها، ما يسندها ويدعهما هو قوة أسلوب جبرا إبراهيم جبرا، ولغته الواثقة التي تحتفي بالشعر دون إغراق وتهويم بلاغي زائد عن الحد. وقدرته على إدارة حوارات رائعة بين شخصياته، بحيث يتبنى كلٌ وجهة نظر متماسكة من البداية للنهاية، ويعرف كيف يعبّر عنها فكرياً وجمالياً كذلك. ففي قلب كل شخصية منها ثمة مجاز كبير يدور حوله عالمه، مجاز الصخر أو الصخرة على سبيل المثال لدى الفلسطيني ديع عسّاف.
إنها لحظة عربية جديرة بالاستعادة والتأمّل، لحظة شتات، انهيار قيم وعالم قديم وانتظار بزوغ قيم وعالمٍ آخر. ومع الاحتفاء التام بتلك اللحظة الخاصة، نجد أنفسنا أمام أسئلة الإنسان، في كل زمن ومكان، ولعلّ هذا مدار قوة وفتنة واستمرارية الأدب العظيم، أسئلة المعنى والحب والمعرفة والجدوى، مطروحة بصرامة وعيٍ حاد ونظرة ثاقبة، من خلال تجسيد تلك الأسئلة درامياً عبر شبكة العلاقات والحكايات المنسوجة بمكرٍ وذكاء.
في كلمة، هذه رواية تستحق أكثر من قراءة، ولا أظن أن كلماتي المتواضعة هنا يمكنها أن تنقل التجربة الخاصة لقراءتها أو توفيها حقها، تجربة من المتعة والتأمل، حيث لا تنفصل اللغة عن العالم ولا العلاقات الإنسانية البسيطة عن هواجسه وأسئلته الأزلية. فلنمسح الغبار عن الكتب القديمة في مكتباتنا، ونتوقف – بين الحين والآخر – عن الركض وراء العناوين الجديدة والأغلفة بديعة الجمال، وسوف نكتشف على الدوام كنوزاَ مخفية ظلّت تحت أعيننا لسنوات، تنتظر لحظتها في صمت وكبرياء.