معجزات زن: اكتشاف السلام في عالم مجنون

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

عشرات الكتب التي تصدر يومياً تدّعي أن باستطعتها تغيير حياتنا، بجرأة تكاد تصل حدّ الوقاحة، سواءً كان هذا التغيير سينجم من خلال طريقة جديدة لتنظيم الوقت، أو ريجيم نباتي، أو ممارسات نفسية وروحية غير تقليدية. كنتُ من سوء الحظ أن ترجمت عدداً لا بأس به من تلك الكتب، لصالح دار نشر جرير تبع أحد مكاتب الترجمة لمدة خمس سنوات، وأصحبتُ شبه خبير في كتب التنمية الذاتية التي تقف على حدود الخرافات الظريفة والأمنيات الطيبة. ورغم هذا عليّ أن أعترف أن وسط محيطات الهراء والزيف والكذب وبيع الهواء، ثمّة على الرغم من ذلك جزر من الصدق، وأن وراء ألف بهلوان مثل باولو كويلهو ربما نجد شخصاً واحداً صادقاً وله عقيدة راسخة ومعقدة وخاصة مثل ج. كريشنا مورتي.

 

كان لا بدّ من مقدمة كهذه من أجل كتاب رف الكتب هذا الأسبوع، وعنوانه: معجزات زن (اكتشاف السلام في عالم مجنون)… للطبيبة النفسية بريندا شوشانا، التي لها كتب كثيرة في مجال طب النفس الشعبي والتنمية البشرية أيضاً، من قبيل كيفية السيطرة على الغضب أو الخوف، ولها أيضاً كتاب الزن وفن الوقوع في الحب. والزن يمكن تعريفها بأنها طريقة أو طائفة متفرعة عن البوذية، وظن هو النطق الياباني للمفردة الصينية تشان [وهي بدورها ترجمة للمفردة السنسكريتية ذيانا] ومعناها كلها واحد وهو الاستغراق التام أو التعبّد المطلق. ويضيق المجال هنا عن التوسع في طائفة الزن ومعتقداتها وممارساتها وخصوصاً ألعابها الشهيرة المتمثلة في الكوآنات [مفردها كوآن] وهي أقرب إلى ألغاز أو أحجيات لا يمكن الإجابة عنها منطقياً أو عقلياً، لكنها تفرض استجابة المرء لها بكامل كينونته. وحتى لمن لا يعرف أي شيء عن الزن، ولا يهتم بأن يعرف سيبقى كتاب د. شوشانا – رغم الترجمة المرتبكة –  بالنسبة له رحلة كشف ممتعة، ونافذة على طريقة أخرى – ربما تكون جديدة تماماً – في مقاربة وجوده وحياته اليومية بكل تفاصيلها.

ما يلي ذلك ليس مراجعة أو قراءة للكتاب بقدر ما هو تفاعل نصّي معه، وهو ما وجدته أسهل وأوفق في التعامل مع منطق الكتاب ذاته، من أن أعرض الأفكار عرضاً مباشراً، وهي مهمة لا أظنها سهلة بالمرة.

****

قال الطبيب: لقد أتيت لأفهم طريقة زن. رفع المعلم نظره إليه للحظة، وأجاله: “اذهب إلى بيتك وكن لطيفاً مع مرضاك، ذاك هو زن”.

 

“لا تضع رأساً فوق رأسك. ما مشكلة ذاك الذي لديك؟”

نيوجن سنزاكي

في هذا الفصل الأول نتعرّف على حروف الأبجدية الأولى لممارسة زن: قبل كل شيء العودة إلى الذات والاعتماد عليها وحدها، بعيداً عن التفتيش المنهك وغير المجدي عن الحلول هنا وهناك وعند هذا المعلم أو ذاك. ممارسة الزن هنا تساعدك على اكتشاف ممارستك الخاصة، طريقتك، إيقاع أنفاسك، وضعية جلوسك متأملاً. والنصيحة الأمثل: دع النفس الطويل يكون طويلاً، ودع النفس القصير يكون قصيراً.

 

“العالم كله دواء، فأين الداء؟”

قول زني قديم

 

لا يمكنك أن تتجنب الألم، فهو يأتي مع مسرات الحياة في حزمة واحدة، ولكن بوسعك تجنب المعاناة المرتبطة بهذا الألم، راقب التيّار، عبور اللحظة، ابتسم لعابري السبيل من الأفكار التي ترد على خاطرك والهواجس والهموم. أنت تعرف أن كل هذا سيمر، وأن صفحة عقلك ليست أكثر من شاشة عرض تنعكس عليها صورة بعد أخرى. راقب أحاسيسك ومشاعرك وأفكارك. انتبه، ليس مطلوباً منك أكثر من أن تنتبه، حتى يتحول الحاضر إلى حضور، على قول أحد المتصوفة. أنت السيّد المتخبئ، أنت السيد الغائب، إذا سيطرت على تهويمات ذهنك ووحوش أفكارك، ستكون سيّد كل ظرف.

 

“عندما نجد السيد، يمكننا أن نرتاح ولا نفعل شيئاً. إذ سيفعل السيد كل شيء”

باشو

 

خطوة أخرى إلى الأمام، تذكر أنه دون مثابرة ودون تكرار لبعض الممارسات البسيطة بصورة يومية لن تراكم شيئاً. استغرق فيما تفعله ولا تنزعج من المهام اليومية الروتينية، هي أيضاً فرصة لتنقية العقل وخلو البال. انتبه، لا مزيد.

 

“إن زن ليس أكثر من التقاط معطفك عن الأرض، وتعليقه.”

قول زني قديم

 

عقلك لا يهدأ ولا يكل ولا يمل، إنه مثل قرد نطّاط، كل لحظة ستجده يطرح عليك ألف فكرة وألف احتمال، يستحضر مليون صورة وذكرى وخاطرة، جيوشه تحاصرك مادمتَ حياً، لكنك تستطيع أن تتسيد عليه، يمكنك أن تهدئه وأن تجعله يجلس هادئاً بجانبك لمراقبة أنفاسك: شهيق، زفير، شهيق، زفير. شيء من المجهود والصبر والتكرار ويهدأ القرد النطاط، وتتحوّل جيوشه إلى أوراق خريف في الريح.

 

“إننا مثل رجلٍ يبكي من العطش وهو وسط الماء، ومثل ابن رجلٍ ثري يتجوّل ضائعاً مع الفقراء.”

هاكوين زنجي

 

لا ربح ولا خسارة، لا شيء هناك لتحصيه أو لتخزنه. تخلّى، حرّر أشباح الماضي وودعها مبتسماً واسخر من هواجس المستقبل ولا تأمن لها، كل شيء يجري هنا والآن. عدا ذلك سراب وصور ورموز. استمتع بهذه اللحظة، بكل قضمة، بكل مذاق، على مَهلك الأبدية كلها طوع يديك، لأنها مكتنزة في هذه اللحظة ذاتها. هذه الممتلكات والحيازات والشهادات ليست هي أنت ولا يمكنها أن تعبر عنك، لكن يمكنها أن تسجنك فقط. الشبح الجائع بداخلك يريد المزيد على الدوام، يحب أن يملأ كل ما حوله بالأثاث والأجهزة والألعاب الالكترونية الثمينة وكل زحام المقتنيات الاستهلاكي الممكن. لن يشبع أبداً، وسوف يستعبدك دون غاية ولا نهاية. يمكنك أن توقف هذا، يمكنك أن تتخلّى وتبتسم للتيّار.

 

بعد مغادرة اللص الذي أخذ كل شيء، نهض معلم الزن ونظر من النافذة، وكان القمر يشع عبر الليل الدامس. نظر المعلم، وتنهد وفكّر: “ليتني استطعت إعطاءه هذا القمر أيضاً.”

افهم أسباب المعاناة تستطيع إيقافها، راقب نفسك، أفكارك، رغباتك. كن يقظاً، اكتشف القيد وفكه هادئاً بلا اضطراب. اقبل، لا ترفض، اقبل حتى الشبح الجائع بداخلك، واسأله عند أي حدٍ سيشعر بالإشباع ويتوقف عن طلب المزيد.

 

“سألت هذا المخلوق الجائع في أعماقي

أي نهر تريد أن تعبر؟”

كبير

 

تتشبث بكل شيء، بالأشخاص والأشياء وألأفكار، هذه مملكتك التي أنفقت عمرك لتأثيثها ومازلتَ منشغلاً بمراكمة المزيد. من المفترض لهذا أن يمنحك شعوراً بالأمان، أن يغذي شبحك الجائع، لكن أين هذا الأمان؟ من أين ينبع؟ أهو حقيقي؟ لكي يكون الكوب مفيداً يجب أن يكون فارغاً، اليد الحرة هي التي يمكنها أن تصافح وأن تشير وأن تعمل. تريد أن تسيطر على كل شيء، تبذل جهدك لتكون الأمور تحت السيطرة وفي حدود رغباتك وإرادتك. وكلما ازداد إحكام قبضتنا سحقنا أي شيء يقع في يدنا.

 

“هكذا يجب أن تتأمل هذا العالم العابر

نجم في الفجر، فقاعة في جدول

وميض برق في سحابة صيف

ضوء قنديل متراقص

شبحٌ، وحلم.”

البوذا: السوترا الألماسية

 

“ترك أحد الرهبان بيته لكنه ليس على الطريق

وهناك آخرون لم يغادرو بيوتهم قط، ولكنهم على الطريق”

قول زني قديم

 

“ليس الطريق في مكان ما في السماء

بل هو في قلوبنا.”

البوذا: الدامابادا

 

بدافع الضجر نستغرق في الألعاب، ونحن صغار نستخدم الدمى، وحين نكبر في الشيء الحقيقي، أي حقيقي؟ ننسج حولنا شبكة من التخيلات والافتراضات ونسقط في قبضتها، مثل ذبابة في العسل.من لعبة درامية إلى أخرى يتكرر نفس البؤس ونفس الوحشة ونفس التعطش.

 

“ينشأ كل اضطراب الإنسان ومشكلاته من عجزه عن

البقاء لوحده مع نفسه في غرفة، ولا شيء ليفعله.”

فرانز كافكا

 

نخشى الصمت، فنلجأ لملأه بكل شيء ممكن. بساطة الصمت تفضح فراغنا، ليس ذلك الفراغ المتسع المرحب الذي يمكن أن يمتلئ بكل شيء ممكن، بل هو فراغ موحش، يوحي بالموت والأشباح. انشغل بالبسيط ولا تطلب المزيد، استغرق مبتسماً، اشرد وغن لنفسك.

 

“إن زن حياة بسيطة تدور حول تناولك الأرز، ثم غسلك وعائك بعد ذلك.”

قول زني قديم

 

أسقط أوهامك عن نفسك، أوهام العظمة والتباهي والفخر. كن خادماً للجميع، اخدم وانسَ، لا تعتمد على أفعالك ولا تعلقها كنياشين. امضٍ مع التيار، كن أنت التيار. اخدم وانسَ وتخفف وامضٍ.

 

“سنوات وأنا أفتش عند حافة الجبل، والآن ضحكة عظيمة عند سفح البحيرة.”

قول زني قديم

 

المعبد هو السوق، والسوق هو المعبد. ما العملة التي سوف تستخدمها؟ ماذا ستشتري وماذا ستبيع؟ هل ستذهب محمّلا وتعود خفيفاً أم العكس؟ افتح الباب. الغرفة فسيحة. اجلس وأنصت، انتباهك طوق النجاة، لك وللعالم كله.

****

هل من الضروري أن نقول إن زن هو العودة للبيت، للنفس، للصمت المفعم بالمرح والبهجة، للأنفاس المطردة بلا أي تدخل من جانب الذهن؟ هل من الضروري أن نقول إن زن تربطه أواصر عميقة وخفية بأشكال التصوف المختلفة في الأديان جميعاً؟ هل من الضروري أن نؤكد على أننا جميعاً بحاجة إلى جرعة صغيرة من ممارسة زن في حياتنا اليومية التي تمتلئ بالأقوال الجميلة وتندر فيها أكثر فأكثر الأفعال الجميلة.

 

مقالات من نفس القسم