محمد الفخراني
الرشاقة، هى أول ما يلفت نظرى فى كتابة “حسين عبد العليم”، رشاقة الأسلوب، الجملة، وأيضًا رشاقة الحياة داخل قصصه، ورواياته، التى تتميز جميعها بحجمها الصغير، وفى الوقت نفسه تنطوى على شريط حيوى وحقيقى من الحياة، ليست حيوات صاخبة، كبيرة، أو درامية، فقط مَقْاطع من حياة حقيقية بتفاصيل ومفارقات إنسانية، ما يجعل القارئ يتعاطف مع هذه الحيوات وشخصياتها، يشعر أنها تلمسه بطريقة ما.
يختار “حسين عبد العليم” مشاهد قصيرة من حياة شخصياته، لتُكوِّن شريطًا من ألم وفرح خفيفَيْن، ومفارقات إنسانية تلقائية، يكتبها فى جُمل متقافزة صغيرة، لا تشعر بأنها مرتاحة، أو مستقرة، على الورقة، وإنما قلقانة، بها شىء من الحيرة، ممسوسة بالحياة، وراغبة فيها، حياة بها مزيج من متعة ووجع رهيف، متعة ووجع يمكن احتمالهما.
فى مجموعته الأخيرة: “ألعاب قد تنتهى إلى ما لا تُحمد عقباه”، يسرد “حسين عبد العليم” مجموعة من ألعاب الحياة اليومية، قصص يمُرّ بينها خيط من الحياة يصلها معًا، يُقدِّم حيوات إنسانية عادية، فى الوقت نفسه لها خصوصيتها، مشاهد من حياة تحدث كل يوم، لكنه الاهتمام بتفاصيلها، ونبض الحياة بداخلها، المفارقات التلقائية، والتفاصيل الإنسانية، التى تجعل من أبسط مشاهد الحياة لحظات تترك أثرًا.
تسرد القصص مشاهد تشعر أنك رأيتها بالأمس، منذ دقائق، أو حتى عِشتَها، الأكيد أنك عِشْتَ بعضًا منها، ربما حوار تسمعه أثناء مرورك فى شارع ما، أو مقهى، يلمس “حسين عبد العليم” روح هذه المشاهد بخفة، وتلقائية، دون افتعال، فقط لمسة تضىء المشهد، وتنقل روحه بالقرب منك، الكتابة بسهولةَ أن تمشى فى شارع جانبى تحبه.
تدور معظم قصص المجموعة، وبالدرجة الأولى، أو كما أحب أن أرى هذا الجانب منها، فى المرحلة العمرية بين الطفولة والصبا، حيث تمتزج رؤيتنا للعالم بالوهم، الخيال، ووجهات نظر خاصة تجاه الأشياء والأشخاص والأفكار، ولما يحدث حولنا، يتكرَّر فى القصص وجود صبى أو طفل مع فتاة أو شابة، أكبر منه فى العمر، يحبها (قصة حبى الجميل)، أو ربما هى أخته التى يتحدث معها عن شىء يراه بوجهة نظر خاصة تختلف عن حقيقة هذا الشىء ورؤية الكبار له (قصة: وجهات نظر).
فى قصة (طارق ونهى) يسردُ الحكاية المُكرَّرة عن الأولاد/ التلاميذ الذين يلقون أقلامهم على الأرض كى يتفرَّجوا على ركبة المُدَرِّسة، التى بدورها تعرف ما يفعلونه، وتتفهَّم أن هذا طبيعى، وسينتهى مع الوقت، وهى القصة التى ستحب أن تقرأها فى كل نُسَخِها من أىّ كاتب، هنا يُقدِّمها “حسين عبد العليم” فى لقطات رشيقة، ولغة يُمَرِّر خلالها براءة الأولاد ورعونتهم، ويختار مُدَرِّسة تتفَّهم ما يفعله الأولاد، ويمكننا أن نلمح منها زهوًا داخليًا بنفسها، يختار المُدَرِّسة التى تريد أن تبقى جميلة ومحبوبة فى أعين تلاميذها، فلا تردعهم ولا تكشف لهم أنها تعرف ما يفعلونه، هى نفسها المُدَرِّسة التى مَرَرْنا بها جميعًا فى وقت ما.
الجُملَة قد تكون متوسطة الطول، أو قصيرة، ما يُقوِّى فكرة الجملة القَلِقَة، غير المستقرة، أحيانًا تحتوى الجملة نفسها كلمةً فصيحة للغاية حتى تبدو كلاسيكية، وبجوارها كلمة عاميَّة لتصنعا معًا مزيجًا رشيقًا وسلسًا، لغة سهلة، بسيطة، وبها شىء حِسِّى، هذا الحِسِّى موجود كأثر “أساسى” لحضور الحياة فى القصص، فالحياة بطبيعتها بها النَفَس الحِسِّى، أيضًا لطبيعة الشخصيات التى يختارها “حسين عبد العليم” لكتابته.
فى قصة (حبى الجميل) تلميذ الابتدائى، الذى يحب جارته التى تكبره بعدَّة سنوات، وبدورها تتفهَّم حبه هذا، وتعتبره أخًا لها، تدخل عليه غرفته، وتقول له: “كبرتى وبقيتى بتحبى يا حلوة”، وتضع فى فمه قطعة الحلوى، وقبل يوم من زفافها تدخل غرفته، عند سريره، وتُودِّعه قبل سفرها مع زوجها للخارج، وبعد أعوام تعود مع زوجها وابنتها وتدخل عليه غرفته، عند سريره من جديد، وقد صار طالبًا جامعيًّا، توقظه بطريقتها المَرِحة: “كبرتى بجد يا حلوة وبقيتى بتحبى”، ليدخل معها فى نوبة من الضحك.
“حكاية الولد المصطفى”، قصة عن الصبى الذى يعمل عجَّانًا فى فرن، لكنه مُغرَم بدخول السينما، ويُقَدِّم رغبته تلك على كل شىء، كأنها عالمه الخاص، هناك حكايات عن السفر، الأحباء والأزواج المسافرين، قصص حب فى عالم الكبار ضربها الحزن والفقد، لكنها ما تزال صاحية، مؤرِّقَة، تحت الجلد (قصة: الرائحة القديمة).
بعض قصص المجموعة تبدأ من نقطة مُتقدِّمة فى الحكاية، “كان قد اقترب.. فكر فى نفسه بالرغم أن خطواته المتزنة.. فإن قلبه يتقافز كما هى العادة” (قصة: الرائحة القديمة)، فيشعر القارئ كأنما فاتَه الكثير من الحكاية، ويتساءل عَمَّ أوصل الأمر لتكون البداية هكذا غامضة، مشحونة، متوترة، لكنها فى الوقت نفسه ليست ضاجَّة ولا صاخبة، على الأرجح أن ما يفعل هذا بالدرجة الأولى هى الجملة التى تحوى لقطة من الحياة.
قصص أخرى بالمجموعة ستكون بداياتها هادئة، تبدأ من نقطة مُتقدِّمة فى حياة الشخصية الرئيسية بالقصة، شخصية تدرك شيئًا جديدًا عن نفسها، أو تتفهم حقيقة ما كانت تعتقده فى مرحلة الصبا “فيما بعد، عندما أكبر سأعرف..” (قصة حبى الجميل)، ربما ما اعتقدَتْه الشخصيات فى صباها كان الأجمل، حيث العالم مُلوَّن بمزيج من الوهم والحلم.
يمكن بسهولة ملاحظة التلقائية والبساطة فى اختيار الكاتب لعناوين كتبه، كأنه يلتقط الاختيار الأول: “سعدية وعبد الحكيم”، “رائحة النعناع”، “المواطن ويصا عبد النور”، وغيرها، أيضًا العناوين الداخلية للقصص، كأنما هذا كله ضمن حالة رشاقة الكتابة.
تتكرَّر فى أكثر من قصة بالمجموعة أسماء لشخصيات بعينها، ويتكرَّر ظهور مدينة “الفيوم”، كأنما جزء من طفولة وصبا ما يزال حيًّا هناك، وفى الوقت نفسه موصول بالحياة فى القاهرة وأسفار أخرى.
عودة من جديد: رشاقة الكتابة المهتمة بالحياة الإنسانية العادية، وشخصيات مميزة بعاديَّتِها، ويومها المُؤَلَّف من مشاهد صغيرة، مُتقطِّعة، وقصص الحب الخاصة جدًا، العاديَّة جدًا، الشوارع الصغيرة، الحارات، تلافيف وأوهام الطفولة والصبا، عوالم الكبار الممسوسة بألم وحب وسفر وفَقْد، ومواقف إنسانية بعضها يستدعى الابتسام، وبعضها الآخر مثل أحجيات لألم خفيف لكنها ليست مستحيلة الحَلّ، وكلها مساحات للتوتر الإنسانى المحبوب، تبدو وكأنها فى قلب الحياة، وفى الوقت نفسه على هامشها، تصاحبها لغة يمكنها المشى على الحبال، كأحد ألوان الكتابة الرشيقة.