الكل يقول أحبك.. فمن منا لا يكذب؟ 

محمد سمير ندا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سمير ندا

ندمت كثيرًا على دخولي المتأخر إلى العوالم الروائية للناقدة والكاتبة المصرية المهاجرة مي التلمساني، لديّ تقريبًا أغلب إصداراتها الروائية والقصصية، ولكن قراءتي الأولى بدأت بأحدث أعمالها الصادرة مؤخرًا عن دار الشروق؛ الكل يقول أحبك.

العنوان خدّاع، يسرب ثمة إيحاء بحكاية عاطفية، بيد أن من يتأمل الغلاف يشعر أن هنالك الكثير من الاحتمالات المتراصة خلف العنوان “العادي” للراوية، غلاف بديع بمنتهى الصراحة، خصوصًا حين يسبر القارئ تفاصيله عقب قراءة الرواية.
نحن أمام رواية أصوات، حكايات قد تبدو منفصلة للوهلة الأولى، إلا أنها تتصل بأواصر تتفاوت قوتها بين وطيدة وعابرة. بعض الأصدقاء وجدوا تشابهًا في أجواء وروح النص بين روايتنا هذه ورائعة عز الدين شكري فشير “حكاية فرح”، وأنا اعتدت أن أحترم الرأي وإن عارضته، فبرغم تناول الحكايتين لتفتت البنيان الأسري، إلا أن رواية مي التلمساني تدور في عوالم مختلفة عن “حكاية فرح”، عوالم إذا أردتُ أن أقارنها بنص آخر لا يقل روعة عن “الكل يقول أحبك”، لذهبت مرة أخرى إلى أرفف عز الدين شكري فشير في مكتبتي، ولكن لإلقاء نظرة سريعة على “عناق عند جسر بروكلين”.

نحن هنا نناقش تشابه العوالم التي تنبثق منها الحكايات، لا الحكايات نفسها، فكل رواية تتميز بطابع خاص وإن تناولتا حكايات المغتربين، ولعل ملاحظتي الأولى هنا تتمحور حول قدرة كتاب المهجر على بلوغ هذه الدرجة من التجلّي، وتمكنهم من بث هذه الجرعة من الصدق والصراحة والمكاشفة في نصوصهم، حالة مذهلة من التوازن النفسي والسلام الداخلي!

كحبات المسبحة نتنقل رفقة الكاتبة بين حبة وأخرى، وفوق كل حبة وُشِمت حكاية، أو دَقّتها أصابع حرفيّ ماهر يخرُّ النحاس طيّعًا بين يديه في خان الخليلي، هكذا صُنعت هذه الحكايات بدقة تؤهلنا لرسم المشاهد، وتحسّس الوجوه، واستنباط ما لم يُعلَن.

في القطار تبتدئ الحكاية الأولى؛ حكاية الدكتور كمال المصري، الأكاديمي دائم التنقل بين مدينتين وسكنين، مدينة يُدرّس في جامعتها، ومدينة جعلها مُستقرًّا لعائلته. نمط حياة يعكس حالة الشتات الذهني التي يعيشها الرجل الستيني، قبل أن نتعرّف تدريجيًّا على صور أخرى لصراع يعيشه بين زواج مستقر تقيم أوده زوجة يحبها (أو هكذا يقول)، وطيف آيلين وعلاقته محددة المعالم معها في مرحلة سابقة من عمره، ثم لينا العقاد، السورية التي لم يتوقف عن عشقها حتى أفُلت سنوات شبابه. في القطار يلتقي كمال المصري أكاديميًّا مصريًّا شابًا هو كريم ثابت، فيبدو هذا الأخير وكأنه يعيد حرفيًّا حكاية كمال المصري، يبدو كريم كأنه يسلك ذات المسارات ويطبع خطواته فوق أثر تركته خُطى كمال المصري. تناص فريد بين نمط حياة الرجلين، فهما يعملان في نفس الجامعة، ويحتفظ كل منهما بأسرته في مدينة أخرى، وتعمل زوجتاهما في ذات الهيئة، ويتشاركان الكثير من المعارف والأصدقاء. لم يجتمع كمال بلينا -فقط- لأنها أطالت أمد التسويف ولم تمنحه وعدًا قاطعًا بتوحيد المسارات.

في الحكاية الثانية يعتلي الدكتور كريم ثابت منصة السرد. كريم أكاديمي مصري على أعتاب الأربعين، متزوج من نورهان عبد الحميد، ويحبها (أو هكذا يقول)، لكنه لا يقدر على نسيان فتاة جمعته بها نزوة عابرة هي أليشيا، وبحكم أن كريم هو انعكاس لكمال في مرحلة سنّية مختلفة، فهو أيضًا حريص على استقرار أسرته والاهتمام بها قدر استطاعته، ولكنه غارق في عشق امرأة أخرى، امرأة لم يَقُل لها أحبك، لكنه يود لو ترتب لهما الأقدار اجتماعًا يطول، وأن يصدر عنها ما يشجعه على الاستزادة من رحيقها الذي لم ينس مذاقه حتى اليوم.

يصدح الصوت النسائي في الحكاية الثالثة عبر نورهان، زوجة كريم التي اختارت زوجها بحسابات العقل، وأحبته بحكم المعاشرة الطيبة وإخلاصه لها ولعائلته (هكذا تقول، وهكذا تظن). إلا أن نورهان ذاتها مشتتة، تُحلّق كفراشة تحوم حول شرنقتها الممزقة كأنها تود استعادة أزمنة لا تعود، فهي لم تنس حكاية غرامها الحقيقي الأوحد مع الصحفي السوري بسّام الحايك (هكذا تقول)، بسّام متزوج من امرأة مصابة بالاكتئاب، ولا يقدر على اتخاذ قرار واضح حيال نورهان، يعلن عن حبه لها، وحبه لزوجته وابنته (هكذا يقول)، لكنه لا يتخذ خطوة واضحة وصريحة صوب عشيقته السرية. رغم ذلك؛ يظل صخب الحكاية يرنّ في أذنيّ نورهان، تستدعي أصداء الكلمات والضحكات وصرخات اللذة التي لا تغيب عن مسامعها. تمنح جسدها لكريم، وكريم ينهل من طيبها ولا يمانع متعة لا تُغيّب صورة أليشيا، بينما تحتفظ نورهان بصورة بسام خلف جفنيها، وتتأرجح بين الندم والرضا في شأن قرارها ببتر معابره إليها، ثم زواجها.
في الطائرة التي تقلها إلى اجتماع يخص العمل، تجالس نورهان امرأة سورية هي داينا سليمان، فتكتشف أن داينا هي زوجة بسام الحايك الجديدة!

يستمر حضور المرأة فوق المنصة السرديّة، فننتقل بسلاسة من مشهد لقاء نورهان وداينا في رحلتهما، إلى رواية داينا لنسختها من الحكاية إبان رحلة العودة. وداينا مصوّرة سورية الأصل، نعرف أنها التقت ببسام في ذات الفترة التي شهدت ذروة غرامه بنورهان. فوّتت داينا أغلب الفرص، وأفرغت طاقتها في ميادين العمل والدراسة والسفر للتصوير هنا وهناك، أرادات استقلالّا فعليًّا يفصلها عن أبوين فترت علاقتها بهما منذ الهجرة، وأخوين لم يحدُثا أثرًا يذكر في حياتها. عقليّة براجماتيّة تشوبها نزعات انتهازية وأنانية، لكنها تقتنص ما تريده في النهاية رغم تأخرها النسبيّ، تحب بسام (هكذا تقول) وتستمسك بالصبر حتى يُغيّب الموت زوجته المكتئبة، وتنتظر عامين كاملين قبل أن يقبل بالزواج ومنحها الاستقلالية المادية المرجوة.
بين المقاطع السردية التي تأتي على لسان داينا، تُمرّر لنا الكاتبة حكاية أخرى عن عاليا المصرية وماتيو الإيطالي، وهي حكاية أخرى عن العشق والرغبة وكلام الحب المنطوق، الذي لا يقبل تقديم أي تنازلات!

ختام الحكاية يأتي على لسان بسام الحايك، عشيق الراوية الثالثة، وزوج الرابعة. وهو في حد ذاته نتاج أزمة كبرى، أو ربما مجموعة من الأزمات أجبرته على النزوح من سوريا إلى كندا عام 1982، بعدما فقد شقيقيه في حروب واقع الأمر أنهما لا ناقة لهما فيها ولا جمل! فشقيقه عادل قتل عام 1970 في الأردن إبان مشاركته مع الجيش السوري في دعم الفصائل الفلسطينيّة آنذاك، بينما لقي حسين مصرعه في لبنان سنة 1981. أعتقد أن الحكاية برمتها تُنسج في مدارات بسام وأشباهه، بسام هو النول الذي تغزل عليه الحكاية الحقيقية في ما وراء النص الظاهر. رجل مهزوم بمعنى الكلمة، يتقن الانسحاب في كل صوره وبكل مفرداته، هو أكثر من يقول أحبك، لم لا وهو يبحث في أحضان كل امرأة عن وطن يستبدل به وطنًا لفظه جنينًا غير مكتمل الإدراك؟ بلغ عامه الستين أو جاوزه، لكنه رغم حالة الذبول التي تنضح بها كلماته، ورايات عجزه التي يشهرها خفاقة بين السطور لتعلن عن خسارته وهزائمه وعدم قدرته على تغيير أي شيء، ما يزال مستعدًا لاستكمال مسيرة البحث عن الوطن في صدر امرأة أخرى، وهو ما تمرره الكتابة ببراعة في الصفحات الأخيرة، حين تتقاطع مساراته مع سلمى، الفتاة المهاجرة الحائرة حيال هويتها التي تتوزع بين المصرية والجزائرية والأمريكية. تنتهي الصفحات وقتما يثق القارئ أن بسام الحايك مازال يمتلك القدرة على قول (أحبك) مرة أخرى، وأخرى، وأخرى…

وإن كان بسام هو أكثر من قال أحبك، فإن بقية الشخوص ليسوا سوى انعكاسات متباينة لحالته النفسية، كلٌ على مرآته الخاصة. كمال لم يجد الوطن في أحضان لينا، ولم يجد كفايته في احتضان ظهر فاتن. لينا ليست سعيدة مع زوجها. كريم يُصرّ على الاحتفاظ باستقرار طويل الأمد بين ذراعي نورهان، لكنه يطارد وطنًا بديلًا في طيف أليشيا، في الوقت الذي تقيم فيه زوجته في الخطوة السابقة للافتراق عن بسام، وتختزل داينا وطنها في استقلال مادي ومكاني يوفره بسّام، الرجل الذي لم يجد وطنه بعد.

ربما تختزل الرواية الوطن في الحبيب، أو تضعه في مكانة موازية للوطن الأصلي، لكنها تستجوب الكثير من المفاهيم حول تعاطي الإنسان لمفاهيم العشق والانتماء. نحن أمام حكايات يرويها مهاجرين عرب يعيشون في كندا، لكن الدوافع الشخصية والحالات النفسية، وتطورات الشخوص ما بين مد الرغبة وجزر الاستقرار؛ لا ترتبط بالضرورة بحالة الاغتراب، وإن كان للاغتراب عظيم الأثر في تغذية الرغبة المستمرة في استبدال الوطن بالجسد والجدران، ومحاولة لملمة الهوية، وإعادة تشكيل لبناتها الشرقية والغربية؛ وصولًا إلى صيغة تفاهم تمنح صاحبها الأمان المنشود.

الأكيد هو أن كلمات هذا النص تصرخ أن العشق ما هو إلا خدعة قصيرة الأمد، وأن الانتماء ليس سوى معطف ثقيل نرتديه -فقط- حين تٌجبرنا الأحداث على التواري في طيّاته، وتفند أسباب البقاء وحقيقيّة الاستمرارية. تقذف هذه الرواية عبر عنوانها – الذي لا يصبح عاديًّا بعد انتهاء القراءة – بمجموعة هائلة من علامات الاستفهام. تستجوب العاشق والمعشوق وتعيد تعريف العشق كمرادف للاحتياج وبديل للوطن، ثم لا تلبث أن تصفعنا بحقيقة الزيف السارح في جدران العلاقات القائمة على العشق (عشق الإنسان أو الأوطان)، وكيف أن هذه العلاقات برمتها، ما استمر منها وما بُتر، تنطوي على كذب وتحريف وادعاء وتسويف وخداع واستمراء وتفويت للفرص الحقيقية، وأنها تستمر -فقط- لدى أولئك الذين يُجبرون أنفسهم على ابتلاع الكذب المنطوق، ولفظ الواقع المستور، فيقولون ذات الكلمة السحريّة (أحبك)! أو يصدقونها وقتما تتسلل كلصٍّ مكينٍ إلى مسامعهم التوّاقة إلى انتزاع اعتراف – ولو كان زائفًا – بالأهميّة، والجدوى، والاستقرار، والقدرة على تحقيق الاكتفاء لدى الآخر.

الاستمرار هنا إقرار بالهزيمة، والرومانسية، كما جاء في النص، لا تجتمع مع مفردات مثل العمل والزواج لما تراكمه هذه الأطر الحياتية من مسؤوليات ينسحب أمامها الحب إلى جحور النسيان.

كان من الملفت استخدام مي التلمساني للطائرات والمطارات والسيارات ومحطات القطارات ومحطات الحافلات كمسرح مكاني لروايتها، فالحكاية التي تبتدئ بقطار وتنتهي بمطارات وحافلات تسابق الوباء، تبرهن أن الإنسان في ترحال مستديم، وأن الدنيا برمّتها ليست سوى سفر ديمومي في غياهب المجهول، سفر واغتراب (في الداخل والخارج) لا يهوّنهما إلا الشعور بالحب، فهل يقدر الحب، وإن ظل في صيغته المنطوقة غير الأمينة، على الصمود أمام الزمن والسفر ومعاناة اقتلاع الجذور، ومتاعب إعادة الغرس؟ أعتقد أنني قدمت الإجابة بالفعل في ما ذكرت عاليه.

مشهد الختام جاء كـ Master Scene يليق بهذا النص الساحر/الصادم. اجتماع أغلب الرواة والشخوص المحورية في مسرح مكاني واحد أثناء انتظار حافلة ستقل أحدهم إلى وجهته منح الحكاية سحرًا مضافًا، وجعلني – كقارئ يبالغ في الاندماج في النصوص التي تستهويه حد التماهي مع الحالة الروائية للشخوص- أفتش وجوه المصطفين في الطوابير، والمجتمعين لأي سبب في أي مكان، محاولًا استنباط الحكاية التي يخفيها كل منهم عن جُلّ محيطيه، وعدد المرات التي نطق فيها كل منهم كلمة أحبك!

نص ممتع، محيّر، صادم، صادق ومؤثر وحقيقي حتى النخاع، يقدم حياة المغتربين (روحًا وجسدًا)، ويُشرّح بمبضع دقيق مواضع الوجع غير الظاهر، يضع قوسين حول كل علاقة مستمرة ويتبعها بعلامة استفهام، يسلط الضوء على الفرص المهدورة على أعتاب التسويف والتردد، يعيد وصل الحبل السرّي بين العشق والوطن، وينثر تعريفات مختلفة لكلاهما تاركًا للقارئ حرية تأويلها ومد الجسور بينها كيفما يشاء، قبل أن يتركنا أمام أسئلة لن يقدر أغلبنا على إعلان إجاباتها.

المسافة بين وطن الميلاد ووطن الاختيار تُعبر عن غربة الجسد، أما المسافة بين المنطوق والمحسوس، بين ما يُشعر وما يقال، فهي معيار اغتراب النفس؛ فهل بيننا من لا يشعر بالغربة؟

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم