فن الخلود: رحلة في عالم التماثيل البرونزية من اليونان القديمة إلى الثقافة العربية

سمير أحمد النزيلي

على مدى قرون طويلة، احتلت التماثيل البرونزية مكانة فريدة في تاريخ الحضارات الإنسانية، بدءاً من اليونان القديمة التي أتقنت صناعتها، وصولاً إلى الثقافة العربية المعاصرة التي توارثت تقنياتها ودلالاتها. هذه القطع الفنية التي جمعت بين المتانة والجمال لم تكن مجرد أشكال فنية، بل كانت وسائل للتعبير عن المعتقدات الدينية والقيم الاجتماعية وتخليد الذكرى.

تطور النحت البرونزي في اليونان عبر فترات تاريخية رئيسية بدءاً من الفترة ما بين (620-540 ق.م)، ثم العصر القديم (540-460 ق.م)، وأخيراً فترة الانتشار بعد عهد الإسكندر الأكبر حتى الغزو الروماني. كانت التماثيل الأولى بدائية لكنها مليئة بالحياة والحركة، مصنوعة من الطين والحجر والبرونز، وتمثل نقوشاً بارزة ومنحوتات أسطورية.

بحلول الفترة الكلاسيكية (القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد)، أصبح البرونز الوسيط المفضل للأعمال الفنية الرئيسية، حيث أن سهولة تشكيله وقدرته على التحمل جعلاه المادة المثالية للنحت. العديد من المنحوتات المعروفة اليوم عن طريق النسخ الرخامية الرومانية كانت في الأصل مصنوعة من البرونز.

كانت التماثيل البرونزية في الحضارة اليونانية تعبر عن رؤية مثالية للجسد البشري، وتجسّد مفاهيم الجمال والقوة والحكمة. كما كانت تُستخدم لتمثيل الآلهة وتمجيد الأبطال الأسطوريين، مما يعكس الدور المركزي للأساطير في الحياة الدينية والثقافية اليونانية. أصبحت هذه التماثيل لاحقاً وسيلة لتخليد الشخصيات التاريخية، حيث كانت توضع في الساحات العامة والمعابد لتذكير الناس بأعمال العظماء وقيم المجتمع. ومن المثير للاهتمام أن التماثيل اليونانية القديمة كانت تطلى بألوان زاهية، خلافاً للصورة النمطية الشائعة عن بياضها الحالي، حيث كانت الألوان تضفي عليها الحيوية والواقعية.

اعتمد اليونانيون تقنية الصب بالشمع وهي الطريقة التي كانت معروفة منذ آلاف السنين. تتكون هذه التقنية من عدة خطوات معقدة تبدأ بنموذج من الشمع يغطى بطبقة من السيراميك، ثم يُسخن ليذوب الشمع ويترك تجويفاً يُملأ بالبرونز المصهور.كان البرونز اليوناني يصنع أساساً من خليط النحاس والقصدير، مع إمكانية إضافة مواد أخرى. المكونات الرئيسية كانت 88% نحاس و12% قصدير في التركيبة المثالية. يتميز البرونز بقدرته على التمدد قليلاً عند التبريد مما يسمح بالتقاط أدق التفاصيل، ثم انكماشه مجدداً لتسهيل إزالة القالب.

نحت اليونانيون القدماء تماثيل برونزية للعديد من الآلهة والأبطال والشخصيات المؤثرة، من بينهم: (أبولو): إله الفنون والشمس، وهناك تمثال شهير لأبولو في متحف الفاتيكان، وكذلك (أثينا): إلهة الحكمة والحرب، ويوجد في عدة متاحف عالمية، وأيضاً (أفروديت – فينوس): إلهة الجمال والحب، و(أسكليبيوس): إله الطب ويمثل غالباً حاملاً عصا الثعبان التي أصبحت لاحقاً رمزاً للمنظمات الطبية العالمية.

كما نٌحتت تماثيل لشخصيات أسطورية مثل الكاهن لاوكون وأبنائه التي تمثل عملاً درامياً رائعاً من العصر الهلنستي سنة 323 قبل الميلاد، وأشاد بها فنانون كبار مثل مايكل أنجلو وجوته.

ونجد أهم المتاحف العالمية التي تعرض تماثيل تاريخية هو متحف اللوفر في فرنسا، حيث يعرض تمثال (ديانا فرساي) وهو تمثال رخامي شهير للإلهة الرومانية ديانا (أرتميس اليونانية)، يُصورها كإلهة صيد مع غزال، وهو نسخة رومانية من أصل يوناني مفقود، ويعتبر أحد القطع الفنية الكلاسيكية البارزة، وقد أُعيد ترميمه عدة مرات. وكذلك متحف الفاتيكان والذي يعرض تمثال أبولو من بلفيدير، وهو تمثال كلاسيكي شهير يصور الإله اليوناني أبولو، كرامي سهام بعد إطلاق سهم، وهو رمز للنصر والكمال، اكتشف في إيطاليا أواخر القرن الخامس عشر، وكان له تأثير هائل على الفن الغربي. كذلك متاحف الكابيتول في إيطاليا والتي تعرض العديد من التماثيل منها تمثال أرتميس: آلهة الصيد والبرية. وأيضا المتحف الأثري الوطني في اليونان، ويعرض تمثال: “المحارب الغالي الجريح” (Wounded Gaulish Warrior) هو تمثال من العهد الهيلينيستي الكلاسيكي، وهو يمثل محاربًا قلطيًا يظهر في لحظة ألم وإصابة، ويعكس الدراما والتعبيرية في فن تلك الفترة، وهو جزء من مجموعة تماثيل يونانية كلاسيكية رائعة.

على الرغم من أن العديد من التماثيل البرونزية اليونانية الأصلية فُقدت عبر العصور، إلا أن الاكتشافات الأثرية الحديثة تمنحنا لمحات نادرة. أحد أكثر الاكتشافات إثارة في السنوات الأخيرة تم في إيطاليا، وليس في اليونان نفسها. ففي عام 2022، أعلن علماء آثار عن اكتشاف “استثنائي” في بلدة سان كاشانو دي بانيه، وهي في منطقة توسكاني بإيطاليا تقع على بعد نحو 160 كم شمال روما. عُثر على أكثر من 20 تمثالاً برونزياً محفوظة بشكل مذهل في أحواض استحمام ساخنة قديمة. كانت محفوظة بشكل بديع، حيث ساهمت المياه الساخنة المعدنية في الحفاظ عليها تقريباً مثلما كانت عليه في الأصل. ويقدر عمرها بحوالي 2300 عام. إن العثور على تماثيل برونزية (وليست من الطين) بهذه الكمية والحالة يعد أمراً غير معتاداً ومهماً جداً. يُظهر هذا الاكتشاف كيف انتقلت وانتشرت الثقافة والفن اليونانيان عبر الإمبراطورية الرومانية، وكيف يمكن لظروف طبيعية خاصة أن تحفظ لنا كنوزاً كانت ستضيع لولا ذلك.

أما في الثقافة العربية، فتحمل التماثيل البرونزية دلالات رمزية قوية، غالباً ما ترتبط بتخليد الزعماء والقادة والشخصيات الوطنية. وعلى الرغم من أن بعض التيارات الفكرية تحتفظ بتحفظات تجاه التجسيد في الفن، إلا أن النحت البرونزي وجد مكانته في الفضاء العام العربي. سامي محمد، النحات الكويتي البارز، يعد من أبرز الفنانين العرب الذين استخدموا البرونز للتعبير عن قضايا إنسانية واجتماعية. أعماله مثل “صبرا وشاتيلا” و”المكبلين” تعكس التزامه بقضايا الحرية والكرامة الإنسانية.

وفي اليمن، وعلى الرغم من أن نتائج البحث لم تقدم معلومات مفصلة عن التماثيل اليمنية القديمة، إلا أن الآثار اليمنية تشهد على حضارة غنية تعود إلى مملكتي سبأ ومعين. اكتشفت في اليمن تماثيل برونزية تعود للحضارات العربية القديمة في جنوب الجزيرة العربية، تعاني اليوم من تهديدات متعددة بسبب الظروف الأمنية والعوامل البيئية.

تحتفظ المتاحف اليمنية والدولية ببعض هذه الكنوز الأثرية، لكن الكثير منها تعرض للتلف أو النهب خلال فترات الاضطراب. تحتاج هذه التماثيل إلى جهود ترميم وصون عاجلة لحفظها للأجيال القادمة، باعتبارها شواهد حية على تاريخ عريق يستحق الحماية.

تمثل التماثيل البرونزية جسراً بين الماضي والحاضر، وتجسيداً مادياً لقيم المجتمعات وتطلعاتها. من حرفيي اليونان القدماء إلى فنانينا المعاصرين، يستمر هذا الفن العريق في التعبير عن أعمق ما في الروح الإنسانية من إبداع وجمال.

وعلى الرغم من الاختلاف الجوهري في الفلسفة الجمالية بين الفن اليوناني (الذي اهتم بتجسيد الإنسان والمثالية) والفن الإسلامي (الذي اتجه نحو التجريد والزخرفة)، إلا أن هناك حواراً وتأثيراً تاريخياً واضحاً للإرث اليوناني القديم على الفن والعمارة الإسلامية. كان التأثير اليوناني (وخاصة عبر الحضارة البيزنطية الوريثة لها) واضحاً في العمارة الإسلامية المبكرة، وخاصة في بلاد الشام خلال العصر الأموي. ويمكن ملاحظة ذلك في:

*   قبة الصخرة في القدس (691م): يُظهر المخطط والزخرفة الجزئية تأثيرات بيزنطية واضحة.

*   الجامع الأموي في دمشق (709-715م): يحمل مخططه تشابهاً ملحوظاً مع الكاتدرائيات المسيحية البيزنطية التي بنيت في القرنين السادس والسابع، مع تعديلات لتلائم شعائر الإسلام.

*   الأنماط الزخرفية: تأثرت أعمال البلاط، والأنماط الهندسية، واستخدام الأقواس والقباب، وطرق بناء الطوب والحجر متعدد الألوان بالعمارة البيزنطية.

*   كنيسة آيا صوفيا: اعتُبرت نموذجاً للعديد من المساجد العثمانية بعد فتح القسطنطينية لنحو 400 عام.

وهناك التأثير في مجال العلوم والفكر، وهذا الجانب قد يكون الأعمق والأكثر استمرارية. حيث لعب العلماء العرب والمسلمون دور الجسر الحضاري الذي حفظ ونقل التراث العلمي والفلسفي اليوناني، وأضاف عليه، ثم سلمه لأوروبا لاحقاً. وهذا الدور يتضح في حركة الترجمة العباسية: حيث تكفلت بترجمة جزء كبير من الإرث الفلسفي والعلمي اليوناني، خاصة مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وشرحه والتعليق عليه. وفي مجال الطب، بنى أطباء مثل أبو بكر الرازي وابن سينا على أسس الطب اليوناني (خاصة أعمال أبقراط وجالينوس) وطوروه بشكل كبير، وكانت كتبهم المرجع الأساسي في أوروبا لقرون. كذلك في الرياضيات والهندسة، حيث حافظ العلماء البيزنطيون أولاً، ثم المسلمون لاحقاً، على إرث الرياضيات اليونانية وطبقوه في إنشاءات معمارية مذهلة.

خلاصة هذا التأثير يمكن القول إن التفاعل مع التراث اليوناني لم يكن تقليداً، بل كان استيعاباً وتمثلاً وإضافة. في العمارة، تم صب التقنيات والأنماط اليونانية والبيزنطية في قالب جديد يعبر عن الروح الإسلامية. وفي الفكر، كان الترجمة والشرح والابتكار استمراراً للحوار الإنساني مع المعرفة.

…………………..

*- أهم المراجع:

·       الآثار والعمارة في اليونان القديمة، سليمان سمير غانم.

·       مدخل إلى علم الآثار اليونانية والرومانية، د. عزت زكي حامد قادوس.

·       الفن الروماني، د. ثروت عكاشة.

·       Greek Bronze Statuary: From the Beginnings Through the Fifth Century B.C, Carol C. Mattusch

 

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع