فصول من سيرة النمل.. مغامرة سردية لرواية أجيال رمزية

كرسيان متقابلان لعلاء خالد.. شعرية البحث عن الآخر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

كثيرا ما أردد أن الكاتب الجميل الراحل حسين عبد العليم، رحمه الله، من الكتاب الذين لم يأخذوا حقهم الواجب، فمثله كان من الجدير لكتبه أن تنتشر في كل مكان وأن يعاد طبعها مرارا، وهو ما لم يتحقق، للأسف لأسباب لا أريد أن أتحدث عنها هنا، حتى لا أسيء لأحد.

لكني أيضا كنت أقول دائمًا أنه كاتب يقتنص من الحياة ما يصنع منه نسيجًا سرديًا مختلفا وفريدا، ويغزله بمهارة فائقة، جامعا بين الحكي وتقنيات السرد الحديثة؛ ميالا للاختزال والتكثيف، وللتقطيع، المستعار من مهارة المونتاج السينمائي والفلاش باك.

 وكثيرا ما كنت أرى أنها التقنيات التي بقدر ما أكدت قدرته على الاختزال والتكثيف، بقدر ما أسبغت على أعماله إحساسا بأنها تخفي الكثير مما لم يقل. ولعلني كنت أتمنى أن تكون رواياته ذات نفس طويل، بسبب جمال الشخصيات والتناول.

مع ذلك، فلا أظن أن من حقي، أن أجعل من رأيي هذا مسوغا لرفض أو معارضة رغبته في الاختزال والتعبير عما أراد بالشكل الذي ابتغى وأجاد، لكن هذا الانطباع كان ولا يزال إحساسي كقارئ في المقام الأول. وأظن أن ذلك يعود إلى براعته في اختيار العوالم الروائية التي اقترحها في أعماله. لكن لنقل إنه وجد نفسه أو صوته الخاص وأسلوبه أيضا وأجاد كتابة هذا الشكل الروائي الذي نصفه بالنوفيلا.

كتبت عن بعض كتبه وبينها روايته الجميلة سعدية عبد الحكم وآخرون، وهي أيضا رواية مدهشة في تقديمها لمفهوم حرية المرأة في مجتمعات تقليدية، ومصير تحدي الأعراف الذكورية في المجتمع، وخصوصا تلك التي تضع نسقا لحياة المرأة وتعد الخروج عنه مبررا لوأدها أو قتلها، وكيف يبدو تحدي المرأة لهذه الأعراف أحيانا إما جنونا لا مبرر منطقيا له، أو أنه محاولة انتحار غير مباشرة. ومع ذلك فالرواية تتسم بما اتسمت به أغلب أعماله؛ فهي تبدو كنص مكون من حكاية بسيطة وشخصياتها أيضا لكنه يبقى نصًّا مدهشًا، بقدر ما تدهشنا أفكار شخصياته وتحولاتها.

لكن لعدم توفر أعماله أمامي في هذه الفترة، وهو ما أعود لتكراره بأسى، فسوف أكتفي هنا بتناول روايته البديعة “فصول من سيرة التراب والنمل”، والتي أعتقد أنها كانت النص السردي الذي عرفه به جمهور كبير من القراء.

وظني أن هذا النص ضم الخصائص الرئيسة التي وسمت أعمال حسين عبد العليم في أعماله كلها، مهما اختلفت عوالمها أو موضوعاتها. لكنه أضاف لهذا العمل إضافة جريئة في كونها رواية أجيال مكثفة، إذ أنها لا تزيد في مجملها عن نحو 90 صفحة من القطع المتوسط، ومع ذلك فقد مرر من خلال سيرة حياة جيلين متعاقبين، جانبا من تاريخ هذه العائلة ومن تاريخ الطبقة الوسطى التي يمثلها أبطال العمل، على امتداد ما يقرب من نصف قرن من التغيرات الاجتماعية التي مرت بها مصر.

يختار عبد العليم في هذه الرواية مشهد أسراب النمل وما يتولد عنها من حفر الخنادق التي تأتي منها إلى منزل أسرة الدكتور عزيز بشرى لكي يضع مشهدا قد يكون مألوفا في بيوت عديدة، ولكنه يمنحه دلالة فنية وسردية بأن استفحال ظهور النمل والتراب لا يكون إلا في بيوت مهملة، إما لغياب من فيها، أو لغياب روح جوهرية ممن كانوا يعيشون فيها ويمنحونها الحياة مثل الأم التي ماتت وتركت الزوج والابنين في حال من الخواء والوحدة وأسراب النمل!

الأسرة النازحة من الفيوم والتي لا تزيد عن زوج وزوجة، أصلها من سوهاج، وابنين تكشف بداية النزوح أو الهجرة المبدئية من الريف إلى القاهرة بكل دلالاتها التي تعني أن الريف يبقى أرضا للزرع، بينما المدينة هي التي تستقبل أصحاب الطموح من الأطباء وضباط الشرطة والمهنيين والموظفين وغيرهم، استجابة لتطورات ما بعد 1952 التي أحدثت تغيرا اجتماعيا كبيرا في مصر، وخلقت طبقة متوسطة مختلفة، لها عادات ريفية ومعتقدات وسلوكيات محافظة، تنتقل بها من الريف إلى المدينة وقد تصاب بلمسة من الحداثة، لكنها لا تعد حداثة مكتملة.

وهو أيضا ما ينطبق على أقباط مصر ممن فضلوا حصول أبنائهم على تعليم جيد ليغدوا أطباء مثل عائلة الدكتور عزيز بشرى ابن تاجر العسل الذي درس الطب، وعمل طبيبا في محيط القرى التي عاش قريبا منها، ثم تزوج فتاة من عائلة موسرة في الصعيد، ليؤسس معها حياة جديدة في القاهرة، وينجب ابنيه فؤاد وفاروق، وهما إسمان لهما رمزية كاشفة لبعدين أحدهما أن هذا الجيل من المصريين الأقباط الذي نشأ في زمن القومية اختار لابنيه اسمين لا يميزان طائفتهما، وإن كانا في جوهرهما، من جانب آخر، يكشفان تحيزا رمزيا لزمن الملكية المصرية.

الأب الطبيب يورث مهنته لابنه الأكبر فؤاد، ويركز كل همه في العمل والطب بعد وفاة الأم في نهاية السبعينات، (لاحظ دلالة التاريخ، وهي فترة تاريخية في مصر ترتبط بالانفتاح ومعاهدة السلام ونهاية الحلم القومي تقريبا)، وحيث يبدأ صراع العائلة مع أسراب النمل والتراب. مع الإهمال الذي لم يتمكنوا بالقضاء عليه لرفض رب الأسرة الاستعانة بمن ينظف لهم البيت خوفا من السرقة (هذا متغير آخر يدل على تغيرات قيمية في المجتمع المصري)، وخوف الأب أساسا يعني أنه في غياب رقيب مثل الأم سيغدو مهمة من أراد السرقة أيسر.

لا يقول الراوي شيئا من كل هذا التأويل، بل يكتفي بالدلائل السردية، فعلى سبيل المثال فإن البرقية التي تنعي وفاة الأب تطلعنا على التاريخ الاجتماعي للعائلة، ثم هناك مشهد كفاحه في مقاومة أسراب النمل وحيدا، أو حوارات مقتضبة بين الأب والابنين، دعوة الزواج لعزيز وعايدة، ومشهد حفل الزفاف في حديقة بيت والد عايدة، ونفهم من طبيعة الأغنيات الطبقة التي تنتمي لها عايدة التي كانت تدرس في مدرسة الفرنسسكان، وفي الحفل تدار أغنيات إديث بياف وأسمهان. أو لقطة أخرى لنعي الأم التي نعرف منه تاريخها هي العائلي في الصعيد وتاريخ وفاتها..

يتحرك النص بين ثلاثينات القرن الماضي حيث عرف عزيز طبيبا في قرى الفيوم، وحتى زواجه في الأربعينات في سوهاج من عايدة، ابنة أحد أعيان جرجا، ثم نزوحه مع زوجته إلى القاهرة، وحتى وفاته نهاية التسعينات، لكن النص لا يقدم لنا سردا تقليديا زمنيا متراكما، بل يتراوح بين الأمام والخلف، بين الماضي والمستقبل، بين الأمس واليوم، عبر لقطات الفلاش باك، والذكريات والبرقيات، وغيرها.

لهذا يعتمد السرد كثيرا على التفاصيل الصغيرة، على دلالة كومة تراب من صنع سرب النمل، أدوات يبحث عنها الطبيب ليقطع قطعة نسيج من ثوب ليستخدمها في مسح الأثاث وتنظيف آثار النمل. حوار مقتضب بين الأب والأم، أو بين الأخين، الطبيب والمهندس. لقطات تستدعيها الذاكرة الخاصة بكل من أفراد العائلة.

يكتفي كل مرة بقطعة نسيج سردية صغيرة، ويربطها بغيرها، وهكذا من هذا الكولاج السردي تبين للقارئ في النهاية الحكاية كما حدثت ومصير أبطالها جميعا.

وأظن أن هذه السمة لها علاقة برغبة عبد العليم في التجريب أيضا، وهو يقترح لكل نص ما يلائمه لخوض مغامرته بالشكل المناسب لها، وبينها مثلا استخدام لغة عامية في رواية بازل، لتتناسب مع طبيعة أبطال العمل. ولو أنني أعتقد أن فكرة البازل نفسها، تلك اللعبة التي تقوم على تجميع جزيئات من صورة كبيرة لتشكيل صورة كاملة هي بالضبط جوهر أسلوب عبد العليم. ينثر الأجزاء المختلفة من الصورة في شكل لقطات سردية، أو ملامح من سير الشخصيات، ويترك للقارئ مهمة تجميع البازل ليكوّن هو الصورة الكبيرة، أو الكلية. وهو بهذا المعنى كان كاتبا حداثيا، متطورا، وكل عمل من أعماله شهادة على نقلة جديدة في السرد.

بتلقائية شديدة يأتي اختيار أبطال العمل ممثلين لأسرة من أقباط مصر، حيث لا نرى أي اختلاف عن طريقة حياة ونمط معيشة أي أسرة مسلمة من نفس الطبقة، ولعلها رسالة ضمنية أيضا قدمها الكاتب في النص ببراعة، فالطبيب يمارس عمله ويعالج مرضاه دون تفريق، بل وهو محل ثقة النساء اللائي يقوم بتوليدهن من المسلمات ومن الأقباط على السواء. وكذلك فأغلب القناعات التي ترد في النص وبعضها له علاقة بالخرافة أو المعتقدات الشعبية عن ربط وفاة ربة البيت بظهور النمل، تؤكد أنها معتقدات تخص الشعب كله، وهي قد تكون مكونا لثقافة شعبية يتساوى فيها طبقة من المتعلمين أو غير المتعلمين.

ومن جهة أخرى فإن رمزية تاريخ وفاة الأم في عام 1977 في توقيت زيارة السادات للكنيست وإعلان اتفاق السلام هو تاريخ انهيار استقرار أو توازن العائلة، أو انتهاء مرحلة الأمل والبهجة إلى مرحلة العزلة والانكفاء على الذات والحزن المستمر وانتشار النمل في المنزل بلا توقف، أو اختلال نظام البيت بتعبير الراوي. وحتى هجرة الابن الثاني فاروق يأتي في إطار موجة من الشباب المصريين الذين أصابهم اليأس بعد السلام مع إسرائيل والذين فكروا في الهجرة من مصر إلى أوربا. مسلمون ومسيحيون، لأنه لم يكن يعاني من اضطهاد أو فقر. بل كان مهموما بالثقافة والسياسة، وهو جزء من حلقة أصدقاء تربطهم نفس الاشغالات والقراءات، وكل من قرر منهم الهجرة فقد كانت دوافعه هي البحث عن مجتمع مثالي يمكن للمثقف أن يجد فيه نفسه بعد اليأس والإحباط من تحول المجتمع إلى مجتمع مشغول بالاستهلاك وتبديد القيم.

رواية على قدر صغر حجمها بقدر ما تثير الأسئلة والأفكار وترصد صعود وانهيار طبقة تمثل بشكل ما الطريقة التي تم بها وأد نضج المجتمع في مرحلة أوقفت حداثته وجعلت من المثقفين نماذج مبتسرة إما تعيش وفق المنطق الاستهلاكي الجديد أو هاربة للبحث عن مساحة تتحقق فيها رؤاها عن الحرية والاستنارة.

وأغتنم هذه الفرصة لأعبر عن أمنيتي بأن تعاد طباعة كافة أعمال هذا الكاتب الموهوب، وإتاحتها للقراءة لأنني أعتقد أن ناشره ظلمه ظلما فادحا بالتقصير الشديد في توزيع وإعادة طباعة رواياته التي تستحق الانتشار والقراءة مرارا وتكرارا.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم