خطاب لم يلقه الزعيم

خطاب لم يلقه الزعيم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد المنعم رمضان

يعلم الكثيرون أنه بعدما ودع الرئيس عبد الناصر أمير الكويت , ذهب إلى منزله المتواضع حيث أصابته نغزات الموت قبل أن يتوجه بأمان إلى مثواه الأخير ... و لكن مالا يعلمه الكثيرون هو ما حدث فى تلك الدقائق المعدودة قبيل وفاته.. كان جمال عبد الناصر نائما على سريره محاطا بطبيبه الخاص و زوجته السيدة تحية و بعض المقربين إلى قلب الزعيم و قد كان لى الشرف أن أكون بينهم , و هذا مالا يعلمه الكثير من مؤرخى تلك اللحظات... كانت الآلام تعتصر جسده , كما كانت معتادة أن تفعل على مدار ثلاث سنوات من العذاب المستمر, و لكن الآلام هذه المرة كانت مختلفة , بصمات عزرائيل كانت واضحة فيها , شعر الرئيس أن هذه اللحظة قد تكون الأخيرة له فوق أرض الوطن و أنه قد ينتقل بعد لحظات تحت ثراه... و مما هون عليه تلك اللحظة أنه لن يفارق أرض مصر التى عشقها منذ لمست قدماه إياها , الأرض التى أعطته كل شئ و أعطاها فى المقابل عمره...هكذا كان الإتفاق, و هكذا نفذه كل من الطرفين بكل تفان و اجتهاد كما لم يفعل أى متعاقدين على مر الزمان.

 نظر عبد الناصر إلينا و كانت عينه المعتصرة بالآلم مازالتقوية مثلما كانت دائما, كانت ملامحه كما لو أنه لن يموت أبدا , لا اليوم ولا أى يوم آخر , و لكن من ذا الذى يتحدى عزرائيل , خرج صوته و كان متقطعا و لكنه كعادته كان صارما و حازما…( أخرجوا و سيبونا أنا و (…) لوحدنا) هكذا قال , و بالفعل خرج كل الموجودين بعدما جادلوه و لكنهم أستجابوا لإصراره فخرجوا و تركونا أنا و هو بمفردنا.

اجتمعت بعبد الناصر الإنسان فى أصفى لحظة فى حياة أى إنسان , و هى اللحظة التى يعلم فيها أنه بلا حياة…قال لى ناصر بصوت خفيض (هات ورقة و قلم عشان أمليك خطاب تنقله للشعب بعد وفاتى) , قاطعته قائلا (بعد الشر عليك يا ريس)… أشار لى أن أسكت و قال ( هات الريكودر أحسن , أنا مش ضامن الوقت ).. فذهبت و جلبت الريكودر القديم من فوق مكتبه الصغير فى طرف الحجرة الضيقة البسيطة و بدأت فى تسجيل هذا الخطاب , خطاب الوداع :

” من الرئيس الجندى و الإنسان المصرى العربى جمال عبد الناصر المجند لخدمة وطنه الذى يسعى جاهدا أن يخدمه بكل طاقته , إلى الشعب المصرى , الشعب الذى تحمل الكثير…لا أعلم أين سأكون بعد دقائق معدودة من الآن و لكن ما أعلمه أنه من الممكن جدا أن أكون فى طريقى للقاء سنلقاه جميعا يوما ما , لقاء لن أكون فيه الرئيس كما أنا الآن , سأكون المرءوس و العبد المطيع , لقاء عندما نقترب منه لا يكون هناك معنى للكذب و الخداع و النفاق ,الصفات التى اجتهدت طيلة حياتى أن ابتعد عنها , خصوصا فى تعاملى معكم أنتم , أنتم يا من دفعتونى لأكون جمال عبد الناصر الذى حاول و حاول و حاول , نجح فى بعض الأحيان و فشل فى أحيان أخرى , مثلى مثل أى بشر عادى .. و لكن لحظات النجاح كانت حقا لحظات فخر لكل مصرى , فلم أكن سعيدا أننى أممت قناة السويس قدر سعادتى عندما رأيت العزة فى عيونكم , لم أكن بطلا فى 1956 , و لكنى أصبحت بكم .. لم أكن لأبنى السد العالى دون عرقكم و جهدكم و كفاحكم من أجل تحقيق أحلامنا المشتركة … و كما نجحت كثيرا ,إلا أننى أيضا فشلتو كانت لحظات مريرة .. فشلت فى أن أحقق لكم الديمقراطية كما تمنيت, و فشلت أن أحافظ على أرضنا مصونة… و لن أعتذر عن ذلك , لأن هذه الأخطاء لا يتم الإعتذار عنها إلا بإصلاحها , وقد عملت و شقيت و تعبت , لم أهنأ بنومى طوال ثلاث سنوات لأصلح مما حدث … و قد أقتربنا , أقتربنا جدا من هدفنا , و لكن يبدو أن القدر لن يمهلنى الوقت الكافى كى أرى تلك اللحظة و أنا بينكم , و لكن الأهم انكم أنتم سترونها بعد شهور أو أقل , و لكنها ستمر على كعشرات السنين الطوال حتى و إن كنت حبيس قبرى .و سأكون هانئا جدا عند ربى عندما أشعر أن الكابوس قد زال , عندما تأتى تلك اللحظة التى عشت من أجلها و موت بسببها.

أرجوكم أن تتذكرونى بالطيب , أن تتذكروا أننى قد عملت من أجل فقرائكم و لم أكن أبدا من أغنيائكم .. تذكروا أننى أكلت مما تأكلون و لبست كما تلبسون و عشت كما تعيشون و عانيت أكثر مما تعانون و نمت أقل مما تنامون… تذكروا أننى عندما حاربت , لم أكن أستهين بأرواحكم و لكنى كنت أهتم بها أكثر منكم… كنت أقدرها و أهتم بإعلاء شأنها و تكريمها… فما قيمة الحياة فى ظل الذل و الهوان؟؟ ما قيمة الحياة دون عزة و كرامة… لم أكن أسع إلى ملك زائف بل لقد عملت كل ما بوسعى من أجل الحفاظ على كرامتى و كرامتكم, كرامتنا نحن المصريين, و نحن العرب و المسلمين..

أنا الآن على فراش الموت , و قد تركت لكم بلدا تنضح بالخير من كل إتجاه.. بلدا مليئة بالكنوز, و لقد زرعنا أرضها معا, و وفرنا المياه و الكهرباء و الخدمات لها معا, بنينا فيها المصانع و المنشآت و الشركات معا , و بنينا و مازالنا نبنى جيشا يستطيع أن يرد أرضنا معا.. و بنينا جيلا من الشباب المصرى العربى المتعلم المثقف المحب لأرضه المؤمن بقوميتنا و بكرامتنا , من الأغنياء و الفقراء على حد سواء… و وفرنا لهم ما أستطعنا ليكونوا جيلا يستطيع أن يحافظ على ذلك البلد الجميل و أن يقدس ترابه.

و قبل أن أختم خطابى و حياتى معكم , أطلب منكم بعد ما كان بيننا من كفاح مشترك و حب متبادل , أطلب منكم أن تحافظوا على انجازاتنا… ألا تعودوا من جديد لذل الفقراء و أن تقربوا المسافات بين الغنى و الفقير, أن تحافظوا على قوميتنا العربية , أن تقتربوا من بعضكم البعض و تساندوهم و يساندكوم , فليس لكم من معين غيرهم بعد الله , هم عرضكم و هم شرفكم… لا تبيعوهم أبدا… أتمنى أن تفعلوا مالم أستطع أن أفعله لكم و أن تعيدوا أرضنا و أن تنالوا حريتكم بأيديكم , فأنا لا أعلم من سيأتى بعدى و هل سيكون قادرا على تحمل المسئولية أم سيكون عبدا حقيرا للقوى العظمى و للسلطة و هالة نورها .. و أستحلفكم بالله ألا تذلوا أنفسكم و ألا تبيعوا إخوانكم… أعلموا أن الذل لا يجلب إلا مزيدا من الذل و الهزائم… و حافظوا على مصر..أرجوكم حافظوا على مصر)

هكذا كان ما سجلته بالضبط على لسان الزعيم جمال عبد الناصر قبل أن يدخل طبيبه و السيدة تحية إلى حجرته ليلازماه فى آخر ثوان فى حياته و يودعاه كما ودعه ملايين المصريين بحرقة و آلم.

هذا هو السر الذى أخفيته لسنين و كنت جبانا و لم أستطع أن أدافع عنه و كادت أن تموت وصية الرجل مع موتى و لكن حمدا لله أننى أستطعت أن أنقلها لكم قبيل وفاتى أنا الآخر , فعندما ذهبت كى أعطى هذا التسجيل لخلفائه كى يذيعوا وصية الرجل إلى شعبه الذى أحبه و خرج فى الشوارع لوداعه , رفض خلفاؤه أن يذيعوه بل و أحرقوه, فلم يكونوا يعلموا أن هناك نسخا أخرى من ذلك التسجيل , نسخة فى قلب كل مواطن مصرى , نسخا لن يستطيعوا أن يحرقوها …خلفاء الزعيم الراحل لم يكونوا حقا خلفاءه بل كانوا أعداءه….أخفوا وصيته لأنهم خافوا منها على أنفسهم الضعيفة , كان لهم مخططا آخر من أجل مستقبل ذلك البلد الحزين , من أجل مستقبل أكثر ذلا و هوانا و استسلاما… من أجل مستقبل بلا أى ناصر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحوظة: الرسالة من وحى الخيال , ما أقربه إلى الواقع

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار