فصل من رواية “كم أكره القرن العشرين – معلَّقة بلوشي”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالكريم العبيدي*

هل لي أن أحظى بكرم التفاتة؟ نظرة متكسرة أو ناعمة، تشير الى شح انتباهك، انها لحظة نادرة يا "بالاچاني". تسلَّلت ببطء من أفول هذه المدينة، وعشَّشت في تخومك. ربما لأنها لحظة ضالة وُجِدَتْ لذاتها. لحظة مخيفة مسكونة، أضحت قصيًّة عن الإدراك، منقوعة في كَنفِ الدهشة، وممسوسة بالرعب.

مَهلَكَ لحظة...

جرِّب أن تنصت لي مرة، لنختم أمر صحبتنا. أراهن أنك ممتعض وحزين، وتعاني من نهارات مشوَّشة، غلبت عليها كوامن الحيرة والضعف، لكنني نصفك العليل يا “بالاچاني”. “خوشگه” رخيص، وجد بلوشيته بحدس مباشر، وحالما ألف غروبه، تملَّكه شعاع تأهيل الذات، واتجه به إلى “سليكة”. أوه… شكرا لك، ها نحن على وفاق إذن، كنتُ على يقين أنك ستسامحني. هذا لطفٌ منك، سأفضي لك بما يشبه حشرجة الموت، ثم أرحل.

ولكن كيف!؟ هي زلزلة عصيبة. ربما أستطيع أن أحصي بوضوح كل شهقاتها العالقة، وقد أستجمع كل آلامها الخفيَّة، ولكنني أجد صعوبة بالغة في سردها. هل تدرك ماذا يعني اقترابك من موت مدينتك!؟ انه دنو مهول مسحور، مشارفة ملموسة كبرى، قد تصعب عليك، من خارج تلك الضائقة الانفعالية التي حشرتني عنوة، في طنين هذه المدينة.

اطْمئِنْ “بالاچاني”، لن أخلف ثغرة في جدار انسدادك. لا أحد في البصرة يتابع خرابه غيري. كل شيء يفصلني عنك لا بد أن يجرفني إلى “سليكه”. هو لقاء عابر لا غير، أبدو فيه كساع بريد عجوز، يسلمك رسائلك ويمضي. لكنني لم أستطع بعد أن أتخطى سآمة احباطك، ولم أفهم ما أتشوّق إلى رؤيته فيك، وبينما ظلَّت كلَّ أوجاعي غير المروَّضة بمنجىً من عصيانك، ها أنا أتجه ثانية إلى تخومي الرخيصة، كي أتجلَّى فيها وأنبسط، على الرغم من أنني أشعر بخوف جافل، بتوتر وتذبذب. الشكوك سيول تتواثب في البيوت يا “بالاچاني”. لا مأوى لي في ظلها الاّ حضن “بيبي”. هي نوازع هربي، وهي دواؤه الوحيد.

حسنا، هل أنتَ جاد في حسم هذه الصفقة؟

 صمتك هذا يعني أنك تهزأ بي، ولكن جل ما أخشاه أن أبدو أكثر وحشة في طبق بلوشيتي. لقد رأيت، حتى الآن ما لم تره، ومن حولي تفتحت، في لمعان أول رجَّة، جواهرٌ مغرية، أسرتني، أنا نصفك الشارد، وطوَّقتني بغزلها الرجّاج، لتصنع أنفاق الفرار إلى “بيبي”، الى أقاصي سرحانها المألوف. وجدتُ “سليكة” هناك كرغوة سحر، تزهر وتفوح، وتطش نسمات “هوا اعْذيبي”، لتوقظ قلبي المُقْفل، وتصنع منه آهات مغرية، ما عدتُ أقدر البتة، أنا المعني بكل هذه الايماءات أن لا أنجذب إليها. بيد أني، حقيقة ارتعدت، العشق الفادح أسرني فعلا، والأخدار الساحرة أسْرَت بي عنوة، إلى تخوم القرية العذراء، الى عافية العيش في دخان أكواخها.

إن ما تسمعه الآن هو معزوفة نهر عذبة. موسيقى قرويَّة عراقية إيرانية، تُعد الحركة الأبطأ في سيمفونية “الگفة والزنبيل والطست”. سوناتا رتيبة ساحرة، تقوم الأوركسترا بعزفها على أوتار الجريان، فتصدح الاهتزازات المغرية حول سعف النخيل، وعلى الضفاف، وفي عيون الأهالي. ملامح ألفة بلا حدود يا “بالاچاني”، تجاوزت الرسوم الجمركية، والمحاذير الأمنية، وشروط منافذ العبور، وغدت “خوّة على حب الله”. لا تحتاج إلى رقابة أو اتفاقيات، ولا يطالها قانون. هي وثيقة قروية شفاهية غير مدونة، لأكشاك وقتية متخيَّلة في الهواء. يدنو المتسوق من ضفة النهر الغربية، يملأ “الگفة” برطب تمر البرحي، ويودعها في ذمة الموج. تهتز “الگفة” قليلا، ثم تبتعد ببطء، باتجاه امرأة إيرانية، تنتظرها على ضفة النهر الشرقية، وحالما تصل إليها، تفرغها من الرطب، ثم تملأها بالـ “ميوَه”، * وتسلمها لموج النهر الوفي، ليعود بها آمنة مطمئنة إلى الغرب، إلى صاحب الرطب. وبينما يضع عجوز إيراني من هناك، “قْران أبو دبيلة” في “زنبيل”، ويودعه في النهر. تضع، من هنا شابة بَصْريَّة “شاهيَّة” أو “شاهيتين أو ربِّية” في “طست” قديم، أو يضع صبيٌ حافي القدمين “عانة أو بيزات أو قرش أو قمري” في “گفة”، * ويسلمها للموج. يبتسم “قران الزنبيل لشاهيَّة الطست”، وتُراقص أسماك “اصْبور الگفة” فاكهة “الزنبيل”، وتغمز حنّاء “الطست” لمذاق “الگفة” المحملة “بفصوص القَند”، * فتبرق آثار تعرجات رجراجة، في غدوها ورواحها. قبلات جيرة بريئة على وجنات السلال، تارة ممتلئة بما لذَّ وطاب، وتارة فارغة إلا من قطع نقدية معدنية. لا يوجد ميزان واحد على الضفتين. الأوزان تصنعها قلوب الجوار، وأعيرة “الگفة والزنبيل والطست”. لم يعرف أيّ منهما أوزان الكيلو والكيلوين و”الحُگَّه”. * وزن البيع المتبادل الوحيد هو:”عينك ميزانك”! يمتلئ “الزنبيل” بمحاصيل زراعية عراقية ويبحر شرقا، مثلما تمتلئ “الگفة” بمواد غذائية إيرانية وتتجه غربا، ويبقى “الطست” هكذا ينوء بحمل الفواكه والخضروات شرقا وغربا، ومع هذه التبادلات العفوية، يبحر “قْران أبو دبيلة، والشاهيَّة والشاهيتين والروبيّة والقرش والقمري”، بلا صيرفة يا “بالاچاني”، بلا حسابات، ولا سعر إقفال أو بورصة. لا تقلبات على ضفتي النهر، عدا تقلبات الفصول، واختلاف المواسم صيفا وشتاء. تتبادل أدوار البيع والشراء هناك بيسر، كل شيء يجري بهدوء، مثل سماحة جريان النهر. هي ألفة لا تفصلها حدود، أيُّ حدود!؟ انكفأت حدود البلدين غائمة خلف سورها الرسمي. لا عوائق تفصل بين كتفي الشط، ولا بين ظلال غابات النخيل. البسطاء هناك لا يحذرون من إشارات خرقاء. تعايشهم يخترق الخطوط الحمر. يوحدهم في تقاسم الزاد والأمن، طالما أن هول الفجوة بين أيّ منهما ورعب الحكومة هو ذاته مرسوم على الضفتين. ذلك ما يوّحدهما ويصنع تسامحا عذريا يناغيه في الخفاء، متسللا من بين ثنايا الخوف، ليقود الطرفين إلى وحدة مستترة.

تلك هي شريعة البدائيين المنسيين يا “بالاچاني”، بياض ناموسهم الفطري، فهؤلاء تبقى رؤوسهم محنيَّة دائما، تَحْدَوْدَب ظهورهم مبكرا من فرط بساطتهم، لا يرفعون رؤوسهم إلا في أدعيتهم، أو في مطالعة السماء، طمعا في رؤية غيمة ماطرة. أما ما يتناهى إلى مسامعهم، من أخبار الخُطَبٍ الرنّانة، فغالبا ما ترد اليهم فيما بعد، نعم فيما بعد يا “بالاچاني”، بعد شهور على انفراج الأزمة، ولا تأخذ منهم أكثر من صفنة “استكان چاي”، في جلسة سمر قصيرة، كأنَّ الحدث المدوِّي معني بنزوات الحكّام الطغاة، وبسِيَرِ فتوحاتهم. حتى لو وصل الأمر إلى تغيير مسار الحدود بقرار من هذا الدكتاتور أو ذلك، فهذا الأمر لا يمسهم، لا يعني تعايشهم، لأنَّ تآلفهم أصلا كان بلا حدود، بلا ثوابت. إنها “عِشرة نهر قديمة” يا “بالاچاني”، صحبة بلا ملوثات، ولا أضغان، ولا أطماع مُبيَّتة. إنَّ مَن يوحدهم نهرٌ، لا تفصلهم سياسة!

ذلك ما دعاني اليه قلب “سليكة”، من داخل ثنايا بيت البلوش. حنون ذلك القلب يا “بالاچاني”، هو هكذا يا صاح، قبل أن أُدرك أن “جاروك” الجذّابة توفيت حال ولادة “ميا”، حتى قبل أن أعرف أن التي كانت عشّا لي في الحَر والبرد  هي “لال بيبي سليكة”!

ها هي تتكئ الآن على شفة الذاكرة. تنزلق في هرب مريح، في دوامة نبش قبورها المكتظة برفات حوادث صاخبة. تجتر وتتأمل، ثم تستيقظ فجأة، تلتصق بذكرى ما، وتتخفى عن شماتة النهارات، تردد، جازمة:”أن مَن لا سند له سرعان ما يدهسه الآخرون”. تهمس قولها هذا مرفقا بحسرة، بنيران آهة أقسى من تجرُّع الزرنيخ، ثم تضع فص “سويكه” جديد ما بين اللثة وبطانة الشفة السفلى، فينتابها خدر لذيذ، وتهرب، ومع هربها تختفي كل “الكرمشات” من وجهها، وتعود لها أسنانها، وقليل من سواد شعرها، فتتسلل حذرة، شبه متنكرة مع “جاروك”، باتجاه بيت العجوز “أم عبودي”، تطلب من أمي أن تستلقي على ظهرها في غرفة الجدّة. تقترب منها “أم عبودي”، تجلس لصقها، تنحني قليلا وتهز ببطنها، تحركه ذات اليمين وذات الشمال، تسألها، في كل مرة عن إحساسها بالجهة الأثقل، وحالما تتأكد أنها اليمنى تبتسم، تهمس قائلة:”مبروك، الجنين ذَكَر”.. وذلك الجنين، أنا يا “بالاچاني”!

تمرق ذكريات “بيبي” كنيران متوالية. قصص مازوشية لا تمحى، لطالما تسللت من قلبها ليلا، وتناهت إلى مسامعنا كسحر قديم، لتمنحنا رعشة انبهار شبه غامضة، بألق بلوشيتها الغارب:”تصدح ترنيمات الشكر لله، في أول ليلة الولادة، تتبعها ستة أيام صاخبة بالغناء. في الليلة السادسة، تلامس أنغام الحفل تباشير الصباح، ومع حلول النهار يذبح خروفان للمولود الذكر، وخروف للمولودة الأنثى. تقوم النسوة بتدهين رأس الطفل، وتوزيع الحلوى، تتطلع الأم إلى وجه وليدها فيتهلل وجهها فرحا، ترى شعر رأسه الأسود الكثيف، وأنفه البارز، وعينيه السوداويين، ولون بشرته البيضاء.. “سبهدار، شيركنن، خوشن”، بلوشي أصيل، حمدا لك يا “رحمن”، هكذا تردد بصوت مهموس لمرات عديدة، وهي تمسد وجهه بأطراف أصابعها، حالمة بعامه السادس، بثلاث ليال فرحٍ مكتظة بالغناء والأناشيد، مراسيم الختان التي يحضرها الأقارب والأصدقاء والجيران، وتختتم بإقامة مأدبة عشاء كبرى، ثم يجلسون الطفل على سرير، ويحيط به المحتفون، تشرع إحدى العجائز بتخضيب يديه ورجليه بالحناء، ثم يقوم المدعوون برمي النقود في آنية قريبة منه.

 في اليوم التالي يا “بالاچاني”، يُجلسون الطفل البلوشي بهودج على جمل مسرج، ويسير المحتفون على وقع الدفوف والغناء والرقص باتجاه عين ماء صافية، ليتم غسله، ثم يعود موكب الفرح إلى البيت، يوضع الطفل داخل خيمة مصنوعة من قماش “التور”، تنصب في باحة الدار، ومع تعالي أصوات الغناء والطرب والموسيقى، يقص “المطهرچي” حشفة اللحم، ثم يربطها بخيط أسود برجل الطفل اليمنى.. هذا ما كان يحصل في قصص “سليكة” الغاربة. حتى اسمي يا “بالاچاني” لم يغد “عِزَّتْ خان” تيمُّنا باسم جدي، “لا بد أن تخفوا بلوشيتكم يا أبنائي. صيروا عربا مثلهم، حالكم حال خلق الله”!

البصرة، أحيانا تبدو غير عادلة يا صاحبي، لكنَّ تقهقرات قليلة فيها، تبدو كافية لإعادتي إلى حكايات “بيبي مهر خاتون” * عن “سنة الحالوب”، و”سنة أم زوعه”، و”سنة أم مصران”، ومطر “العگروك”، * وكيف كنّا نسهر في ليالي الشتاء حول “صوبة علاء الدين”، وتبدأ “سليكة” بسرد حكاية مثيرة، وكلما وصلت إلى عقدة حاسمة، رددنا أنا و”ميا” و”ريا”:”إيه والله”، فترد “سليكة”:”إيه والله – بنده الله”، ثم تكمل مقطعا جديدا من حكاياتها الخرافية. حكايات وقصص وأشعار وأحاديث وملاحم غنية يا “بالاچاني”، فيها مواقف حماسية تمجِّد أجدادنا البلوش العظام. لطالما احتاجت “جان بيبي” إلى سبع ليال لسرد حكاية واحدة مشوقة من حكاياتها!

حقا، بعض الأمور لا تُفسَّر يا “بالاچاني”، ولكن تلك هي صفحة العيش في عطر “سليكه”. واحة تبقى محيِّرة على الرغم من كل شيء، لكن الجرح لن تنفع إزاءه الترقيعات، لم تنفعنا مسالمة الأسرة وعزلتها من نزفه، واندماجنا بمن حولنا ظلَّ هشا، فمع أول شجار صبياني حصل بيني وبين “صارم”، أدركتُ ضياعنا المر، وتجرعتُ قسوة غربتنا، وصغر أملنا بوطنٍ، سرعان ما أنكرنا!

…………………………

*صدرت الرواية عن دار قناديل للنشر في بغداد مؤخرا

 

 

مقالات من نفس القسم