فصل من رواية “أراك فى الجنة”

موقع الكتابة الثقافي writers 27
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخرانى

قال لها “نقَّار الخشب”: “ألَمْ تتغيَّر مشاعركِ تجاهى، ولو قليلاً، عندما عرفْتِ أنى لا أؤمن بوجوده إلاه؟”.

فى المَرْسَم واقفًا عند نافذته المُفَضَّلة، بجوار لوحة “العينان السعيدتان”، يرتدى تى شيرت، بنطلون قطنى مُلطَّخَين بألوان الرسم، وبجوار قدمه الحافية فنجان قهوة، “تَخَيَّلْ” على بُعْد خطوات تُشغِّل اسطوانة موسيقية فى جهاز جرامافون.

نظرَتْ إليه، وقالت: “يمكننى أن أرُدَّ عليك السؤال، ألم تتردَّد أنت لأنى أؤمن بوجوده إلاه وأنت لا تؤمن؟”.

“لم أتردَّد لحظة”.

“هل تعتقد أنك أكثر تَفَهُّمًا منى؟”.

“لم أقصد هذا”.

اتجهَتْ إليه، تنقل قدميها الحافيتين فى نور الشمس البرتقالى، وفى الخلفيَّة موسيقا بيانو صولو، توقفَتْ أمامه، نظرَتْ فى عينيه، وقالت: “تزوَّجْتُك وأنا أعرف هذا عنك، أنا أحبك، نقَّار الخشب”.

“حتى لو قلتُ لكِ الآن إنى أكره إلاهك؟”.

نكَشَتْ مقدمة شَعره، وقالت: “تكرهه أم لا تؤمن بوجوده؟”.

“الاثنان معًا”.

ابتسمَتْ وقالت: “عليكَ أن تختار، كيف تكره مَنْ ليس موجودًا؟”.

“أُحب أن أفعل الاثنين”.

“أنا أَفهمكَ هنا نقَّار الخشب، أنت إما لا تؤمن بوجود إلاه، أو أنك تريد أن يكون وجوده فى صورة قاتل، ظالم، عديم الرحمة، حتى تكرهه، أو ترفض وجوده، أيُّهما يسبق الآخر بالنسبة لك، عدم إيمانك بوجوده أم كرهك له؟”.

“أنا لا أؤمن بوجوده، لكنى أُسايركِ كى نتحدث عمَّا يفعله بالعالم، وتُفكِّرى، هل يصلح أن يكون إلاهًا مَنْ يقتل بشرًا أبرياء فى زلزال أو فيضان أو أىّ كارثة من تأليفه، كيف يمكنه أن يفعل هذا؟ ولماذا؟”.

مشَتْ “تَخَيَّلْ” حوله على شكل قوس وهى تقول: “يمكننى أن أفكر فى بعض الأشياء هنا، لأنى سألْتُ نفسى هذا السؤال كثيرًا، لماذا يموت أبرياء فى زلزال أو فيضان؟ لكنى أعرف أنه لا توجد إجابة حاسمة للجميع، فأنا، وأنت، وكل مَنْ يسأل هذا السؤال يريد إجابة واحدة نهائية، وتلك الإجابة لن يعرفها أحد”.

قال “نقَّار الخشب”: “الإجابة الحاسمة، هى أن إلاهكِ المزعوم، يحب القتل، واستعراض القوة”.

قالت وهى تلاعب أشعة الشمس البرتقالية: “لو كان يحب القتل ما فَعَلَ كل الأشياء التى تمنح الحياة، على الأقل كان ليقتل كل مَنْ لا يؤمنون بوجوده، مَنْ يشتمونه مثلاً”.

أزاحَ “نقَّار الخشب” فنجان القهوة بقدمه جانبًا وهو يقول: “ربما يفعل هذا للتمويه، أو..، قطعَ كلامه ليقول: “ماذا أفعل الآن؟ أنا أتحدث عنه وكأنه موجود”.

ابتسمَتْ “تَخَيَّلْ”، وقالت: “أنت تسايرنى فقط كما اتفقنا”، لمَسَتْ بإصبعها شعاعًا يمُرُّ أمام عينيها، وأكملَتْ: “رغم ذلك، أظن أنى أعرف مَنْ يُمكنه الإجابة عن هذا السؤال، الضخم، الذى لا يموت”، حرَّكَتْ رأسها جانبًا لتتفادى نظرَتَه الساخرة، وقالت: “مَنْ يستطيع قراءة كتاب الكون كاملاً، يعرف لماذا يموت أبرياء فى فيضان أو زلزال”.

“كتاب الكون، نعم”، قال “نقَّار الخشب”، ومَدَّ يده أمام النافذة ليمنع عن “تَخَيَّلْ” بعض أشعة الشمس، قفَزَتْ إلى مساحة جديدة، غَمَرَها اللون البرتقالى، قالت: “أنا أرى الكون مثل كتاب، حكاية، وكى تفهمه لا بُدّ أن تقرأه كاملاً، مثلما تقرأ رواية”، قفزَتْ إلى نقطة جديدة، وقفَتْ على أطراف أصابعها، فتحَتْ ذراعيها جانبًا: “لا يمكنك أن تفهم لماذا ماتت هذه الشخصية، أو فَعَلَتْ ما فَعَلَتْه، إلا لو قرأتَ الرواية كاملة”، أنزَلَتْ ذراعيها، واستقرَّتْ على قدميها كاملتَيْن: “لكن لا أحد مِنّا يمكنه أن يقرأ كتاب الكون كاملاً كى يعرف كل شىء، الأمر كله يتعلَّق بالحكاية الكاملة، أنت لا تعرف الحكاية كاملة”.  

قال: “أعرف منها ما يكفينى لأعرف البقية”.

“أنت متأكد؟”.

هَزَّ رأسه: “لا شىء مؤكَّد بالأساس”.

ابتسمَتْ “تَخَيَّلْ” وأمالتْ رأسها قليلًا لتُنصِتَ إلى البيانو: “اسمَعْ، أُحب هذا المقْطَع”، أغمَضَتْ عينيها وحرَّكَتْ كتفيها مع الإيقاع، ابتسمَ “نقار الخشب” وهو يتفرَّج عليها، فتَحَتْ عينيها بعد لحظات، وقالت: “لا أعتقد أنه يصنع الزلازل والبراكين كى يستعرض قوته، لو أراد لفَعَلَ أشياءً أكبر، زلزال وفيضان؟ ما هذا بالنسبة إلى إلاه؟”، راقَبَتْ أشعة الشمس وهى تمُرُّ بين أصابع يدها: “الإنسان عندما يستعرض قوته يفعل أكثر من هذا”، ودارت حول نفسها مع البيانو.

يتأمَّلها “نقَّار الخشب”، تراقص نور الشمس، تلمس بعض أشعتها وتتفادى البعض الآخر، ترقص وتلعب معًا، تنقل قدميها الصغيرتين بإيقاعات رشيقة، فى بنطلون أبيض خفيف، وتى شيرت بلون سماوى، شعرها بُنِّى، قصير، مُهَوَّش قليلاً، عيناها بلون العسل، يضيئهما نور الشمس بين خطوة وأخرى، نظرَتْ إليه فى إحدى حركاتها، قال لها: “أنتِ لوحة جميلة”، مدَّتْ يدها إليه: “تعال”، قال: “أُحب أن أتفرَّج عليكِ”، اتجهَتْ إليه وهى مزيج من الرقص واللعب.

مقالات من نفس القسم