وسرعان ما نفضت تلك الحكايات من رأسي مركزًا اهتمامي على ما حضرت من أجله، وهو دراسة سرعة الرياح واتجاهاتها في المنطقة صيفا وشتاء، وتأثير ذلك على طرز البناء القديمة، ثم مدى استفادة المعماريين المعاصرين من هذه التصميمات في الوقت الراهن.
كنت سجلت ملاحظاتي خلال جولتي بالمناطق الداخلية التي ما زالت أغلب بيوتها تحتفظ بالطابع القديم؛ وكلها تتكون من طابقين لا يحتوي الأول أية فتحات تهوية أو منافذ، أما الطابق العلوي فيحتوي على مجموعة من النوافذ اكتشفت أنها تواجه الجهة التي تأتي منها الرياح الجنوبية الغربية القادمة من جهة البحر البعيد، خاصة في فصل الصيف حيث يكون الطقس شديد الحرارة مع نسبة رطوبة عالية. وهو ما لاحظته أيضا أثناء زيارتي لذلك الحصن المهيب الواقع على أطراف المنطقة. فرغم إضافة الأسوار والمخابئ السرية والأبراج، ظل عامل المناخ حاسما في التقيد بالتصميم ذاته.
قررت أن تكون زيارتي لـ “كهف الفراشات” في نهاية جولتي بالمنطقة رغم إصرار “الصلت”؛ وهو أحد البدو الذي أوكل إليه أمر مرافقتي خلال الجولة، وإلحاحه المستمر. والواقع أنه لم يهدأ إلا وأنا في صحبته خارجين.
كان الكهف مستقرًا في بطن أضخم جبال المنطقة، على ارتفاع نحو عشرة أمتار من سطح الأرض. رحت أصيخ السمع مندهشا لما تصورت أنه ألحان موسيقية خافتة ارتفعت تدريجيا بمدى اقترابنا من الكوّة الضيقة التي تفتح الطريق للكهف المتسع، ووصلت ذروتها وأنا أقف في عمق الكهف أجيل بصري في جدرانه، وأرقب النتوءات والزوائد الحجرية والصهريات المتدلية في سقفه محاولا اكتشاف أية منافذ سرية يحتمل أن تنطلق منها هذه الألحان السرية، أو تكشف عن مخبأ جوقة العازفين المهرة الذين ملأوا المكان بسحر موسيقاهم. وكلما اختلست النظر إلى “الصلت” أجده يبتسم ابتسامة ماكرة فيما يجيل بصره في أنحاء المكان بدوره.
فور خروجنا من الكهف عاد سرب الفراشات الكثيف إلى حيث كنا مرة أخرى: فراشات جميلة لها ألوان صفراء وحمراء بُنية داكنة، تطير في جماعات وبخفة لتبدو كأنها ترقص على الألحان الأسطورية في رشاقة.
خرجت من الكهف صامتا تتجاذبني الهواجس وتناوشني أسئلة كثيرة. لم أنطق بكلمة خلال الطريق الطويل، ولم أعلق على شئ مما قاله “الصلت”. كنت مسحورا ومسكونا بالألحان وقدرتها المدهشة على استعادة شفافية الروح.
أنهكني الأرق؛ إذ تناوبت الألحان والأفكار وحكايات “الصلت” على رأسي فلم أستطع النوم. عاندتني مخيلتي وراحت تتسع بشكل مرعب بحيث إنني فقدت السيطرة على كل ما راح يجول بها من مشاهد وما يطوف من بشر وخيالات. وبين آن وآخر يختفي من عقلي كل شئ عدا مشهد الفتى وفتاته في أعماق الكهف وهما يتحولان إلى فراشتين جميلتين سرعان ما قطع رفيفهما صمت الكهف الرهيب ليتحول إلى ألحان أسطورية لم تنقطع حتى هذه اللحظة.
رأيت القافلة تسير عائدة وهي تجر أذيال الخيبة تحوم حولها صقورها تحمل نعش كبيرها الذي لم يحتمل المفاجأة، وفقد عقله حيث اختفت ابنته – العاصية- مع عشيقها أمام عينيه، بل وتحولا، كما حكى لي الصلت، إلى فراشتين في لمح البصر. وكانت الألحان تتردد في أعماقي بصخب، تنثر النشوة وتتدفق بلا انقطاع.
***
أعتقد أنني استيقظت في اللحظة التي بدا فيها جسدي معلقا في الهواء، وعندما ارتطمت بالأرض نهضت مفزوعا. حدقت في موضعي على الفراش حيث كنت نائما منذ لحظة. اعتدلت جالسا أحاول استرجاع تفاصيل الحلم الذي رأيت فيه ما جعلني ألقي بنفسي من فوق الفراش.
تضخمت صورة السيدة العجوز في مخيلتي، وبدت ملامحها شديدة الوضوح خاصة عيناها الصغيرتان السوداوان اللتان تعكسان طيبة وصلابة في آن. غير أنها عندما حدقت في عيني اكتشفت قوتها الهائلة، إذ هيؤ لي أنهما قادرتان على قراءة كل ما يجول بعقلي من أفكار وما يطوف في روحي من مشاعر.
فاجأتني العجوز بعينيها اللتين وجدتهما في مواجهتي تنفذان إلى أعماقي وقد سلبتا قدرتي حتى عن تحويل عيني هروبا من ذلك التأثير النفاذ، وكانت الكلمة تتضخم في أعماقي.. الشجرة..! عندها تحولت العجوز تحاولا مباغتا ومداهما، كما الصرخة التي روعني خروجها من أعماق “الشجرة”!! وكانت هي ذات الشجرة المتاخمة لكهف العشاق.
***
كان الهواء الرطب يلفح وجهي ويزيد من حماس بينما أسير خلال الوادي الضيق الذي يقع الكهف على أطرافه. ولكي أكون صادقا فإنني لم أكن سائرا إذ شعرت بأنني خفيف تماما؛ وكأنني محمول من قبل قوة غريبة وغير معروفة كان عليها أن تسري بي إلى حيث كانت تلك الشجرة .اندفع غير آبه بالليل والظلام، ولا حتى بذلك العواء المخيف الذي كان يتردد في أرجاء الوادي وكثيرا سبب لي الرعب وأذهب عن عيوني النوم خلال الليالي السابقة.
عندما وصلت أخيرا كانت الرياح قد اشتدت تماما. تلفت حولي في حذر قبل أن تداهمني آهات خافتة مختلطة بأنات واهنة كانت تخرج لاهثة، غير أنني لم استطع تحديد مصدرها.
سمعت اسمي فأجفلت، وكان الصوت الواهن يشتد قليلا معلنا عن مكان صاحبه. أسرعت باتجاه الجسد المكوم على الأرض. رأيت الجسد مسربلا بالأسود بلا حركة. عندما اقتربت تبينت من الصوت الذي صارت نبراته أكثر وضوحا أنه يخص أنثى سألتني بوهن:
أخيرا جئت؟!
أخرجت من حلقي همهمات غامضة، إذ أنني لم أكن أفهم شيئا.
تأوهتْ بشدة فيما كنت أحاول مساعدتها على النهوض وهي تضغط بأسنانها العلوية على شفتها السفلى. تأملت عينيها فراعني جملهما. لم تكن عيناها السوداوان واسعتين غير أنهما كانتا تلتمعان ببريق أخاذ، ويزداد التمعهما كلما حدقت فيهما. ارتجفت. كانت عينانا تدمعان معا بلا دموع. أدركت أنها أليفة لي، بل ,إنني أعرفها منذ عمر يمتد بطول حياتي.. ربما. عاودني هذيني..
اصطكت الأسنان/ عبق الجسد الأليف/ جراح الجسد المثخنة لم تصل إلى الروح/ صهيل خيول قيدت أطرافها ما برح يدهمني/ ثارت الخيل وراحت تطرق الأرض بقوة / آآآآه / حلقوا شعر رأسك يا جميلة / هل طال ذلك من سحرك قيد شعرة/ عاودتها الحمى فطافت كفي على الجسد النحيل الذي لم تزده الجراح إلا نعومة/ عيناك يا مليكتي تضيئان/ ارفقي بقلبي الطفل فأنا لا أحتمل آهاتك/ قلبي يرقص على إيقاع خلخالك/ خمرية أنت لا سمراء إذن/ طافت الشفتان على الحلمتين فهمستا انتظرنا عشرين عاما/ وزادت الشفتان ثمانية/ إذا حلّ علينا عيد سأحنيك بنفسي/ لأنامل قدميك بهجة صباح توقظني فيه عيناك/ أغرقتني بخمر عينيك فلا تبالي بهذياني/ أتدفق إليك أو أتوق/ إحميني من قهر القبيلة يا جميل/ نداءاتك يزركشها رنين الخلخال/ إمسحي دموعك وابكِ كطفلة/ عيناك تتسعان في مرآة عيني فتحتويني/ ارتجفت في احتكاك العانتين/ لا تبعدي ساقيك لأتحسس الخلخال/ رفيف أجنحة الصقور نذير الشؤم/ لا تتركني لهم يا جميل/ دثريني أنت بعريكِ لنطير/ مع الفراشات كدنا نطير……./.
****
لم ينجح الصلت لمدة أسبوعين متتاليين في إخراجي من جالة الصمت التي تملكتني، كما إنني رفضت كل ما ناولني إياه من أدوية وأعشاب جلبها لي لتذهب بالحمى التي سيطرت على جسدي. غير أني بعدها رحت أحلم بالفراشات كثيرا، ولذلك خرجت عن صمتي وأقسمت له أنني أصدق كل ما أخبرني به، وأنا أحدق بالفراشات التي كانت تحلق حولنا في حذر.
في صباح اليوم التالي فوجئت بوجود خلخال فضي مبرقش بنقوش جميلة وعتيقة، موضوع على المنضدة التي تتوسط غرفتي، وهالني عندما مسسته أنه لم يزل دافئا. وكانت الفراشات قد جاءت تدعوني للخروج!
………………………
قصة من مجموعة “باتجاه المآقي” صدرت عن دار شرقيات – القاهرة- 1997، والقصة نفسها كانت مطلع رواية “كهف الفراشات” التي صدرت عام 1998 في طبعة خاصة في القاهرة.