فاوست : من يربح الرهان على روح فاوست: الرب أم مفستوفيلس؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

" خلاص فاوست الكلاسيكي "

ولاء الشامي


" آه ! ليتنى كنت أستطيع أن أسير في ضوئك الحبيب فوق دورة الجبل، وأن أتخلص من كل عذابات المعرفة، وأن أستحم في نداك وأنا سليم معافى
"فاوست مخاطبا القمر

ها هو فاوست في مكان ما من الأرض ،يبكي حظه العاثر كيف لم يصل إلى أصل الحكمة ولب المعرفة لم تنفعه علومه بشئ فلا هو مبجل ولا مشهور ذو أموال ولا حبيبة لديه، فيكفر بدراسة اللاهوت وييأس من اليقين وكشف الأسرار، ثم يلجأ لاستحضار الأرواح والشياطين لتدله عبر السحر على أسرار العلم " أوَّاه! هاأنذا قد استبحرت بسعي محموم في دراسة الفلسفة والقانون والطب، وفي دراسة اللاهوت أيضاً واأسفاه. فهاأنذا أقف الآن، أنا الأحمق المسكين لا نصيب لي من الفطنة إلا ما كان عندي من قبل. "

في ناحية من السماء ربما في نفس التوقيت يراهن مفستوفيلس الرب على روح فاوست، يثني الرب على عبده فاوست ولكن يصر مفستوفيلس على أنه قادر على إغوائه وكشف فساد طويته،يأذن له الرب في ذلك ولكن ينبهه أنه لن يتمكن من إفساد روح كريمة،فحتى وإن تعثر تحت سطوة الغواية ما يلبث إلا أن يثوب إلى رشده ويعود للطرق السليم.

إذا نظرنا لتلك المراهنة سنجد فيها أن في نفس الوقت الذي كان فاوست فيه يسعى لاستحضار الأرواح وتجريب السحر فإن مفستوفيلس في السماء أيضا يسعى وراء الإذن لتخريب روح فاوست،وكشف مبكر لنهاية المسرحية من ناحية أخرى.

الرب: أتعرف فاوست؟

مفستوفيلس: الدكتور؟

الرب: خادمي.

مفستوفيلس : أجل. وإنه ليسلك في خدمتك طرقًا غريبة. فلا شيء في العالم يشفي أوام نفسه الحائمة، ويطفئ غليل صدره الهائج.

الرب: لئن كان يعبدني اليوم وهو مشتَّت الفكر موزع الفؤاد، فلسوف أهديه سبيل الرشاد بعد حين.

مفستوفيلس : هل تراهنني على أن هذا العبد سيأبق من طاعتك؟لا أطلب منك إلا أن تأذن لي كي أجره برفق إلى طريقي وسنتي.

الرب : لا ضير! إن منحتك سؤلك وخليت بينك وبينه. حاول إن استطعت أن تحوّل تلك الروح عن ينبوعها الأسمى، وأجذبها إن قدرت إلى حضيضك، ثم لتقف ذليلًا صاغرًا حين يضطرك فشلك وعجزك إلى الاعتراف بأن الرجل الصالح -مهما أظلمت بصيرته- لا يلبث أن يهتدي إلى السبيل الأرشد والطريق الأقوم.

ونعود للأرض مرة أخرى نجد أن العقدة تأزمت بداخل فاوست فها هو يريد أن يتخلص من حياته عبر تجرع السم ولكن تنقذه تلك النغمات النورانية التي يسمعها من غرفته،عندئذ وفي لحظة الضعف تلك يتجلى له مفستوفيلس في صورة كلب مرة وفي صورة راهب مرة أخرى، ويقال أن الشيطان يطيب له الظهور في صورة كلب،يفترح على فاوست صفقة متأكداً من توافقها مع هواه.

"فيقول له فاوست هازئاً : " وماذا يستطيع أمثالك أن يجلبوا ؟ ربما أطعمة لا تشبع أبدا ، وذهباً أحمر يسيل كالزئبق بين الأصابع ، وقماراً لايكسب فيه المرء أبداً ، وفتاة تغازل بعينها جارك وهي راقدة على صدرك ، ولذة المجد الذي يزول كالشهاب ؟!"

ولكن ماذا قد يثير ذلك العالم اللاهث خلف المعرفة في تلك الملذات الفانية،فتكون خلاصة التعاقد بين فاوست ومفستوفيلس أنه إذا استطاع أن يقتاد فاوست خلال الشهوات الي الحد الذي يتخلي فاوست معه عن السعي الي الحقيقة ويبلغ به الرضا أن يقول لاية لحظة "تلبثي فأنت رائعة الجمال" فإن عليه ان يسلم قيادة لمفستوفيلس.

يسلم فاوست قياده لمفستوفيلس وينغمس في الملذات يتنقل من واحدة للأخرى بخفة شيطانية غريبة،إلى أن يقابل مرجريت تلك الروح المؤمنة التي يعجب حتى الشيطان نفسه من طهرها وخلوها من الآثام.

تقول مارجريت " طوال حياتي لم يطعني في قلبي شئ أفظع من الوجه الكريه لهذا الرجل،وبالأضافة إلى ذلك أعتقد أنه وغد" تعرف مفستوفيلس وشره بروحها الطيبة،لكن مع ذلكيغويها ويوقعها في الخطيئة ويضطرها إلى أن تتسبب في قتل أمها وأخيها ثم ابنها.

يقول أخوها قبيل موته  "أنت الآن مومس،فكوني مومسا تامة.بدأتِ مع واحد سرا، وعما قليل سيتوالى عليك كثيرون،وإني لأتخيل الوقت الذي فيه يشيح الشرفاء جانبا حين يبصرونك كما لو كنت جيفة عفنة تصيب بالطاعون"

ولكن لا تتحقق نبوءة أخيها ،تُسجن إثر اتهامها بقتل ابنها الرضيع،يذهب فاوست لينقذها ولكنها سرعان ماتموت قبل أن ينجح في ذلك ،يهتف مفستوفيلس "قضي عليها " ولكن يسمع صون من أعلى " نُجِّيت!".

كما خُلصت روح مرجريت يُخلص فاوست ولا يظفر الشيطان بروحه،لأن اللذة التي منحها إياه لم تعادل سعيه المحمود نحو الحكمة والمعرفة،فيموت فاوست وتتنازعه الشياطين والملائكة لكنه ينجو "العضو النبيل في عالم الأرواح قن نجى من الشر؛من يجتهد وهو دائب السعي نستطيع نحن تخليصه".

كل المؤمنين من جميع الأديان يسلمون بحقد الشيطان على بني آدم ويصدقون ذلك بأنفسهم  حين يوسوس في أذن الواحد منهم بفعل الشر أو الانسياق وراء الملذات." قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ،قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ،وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ،لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ،إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ،ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ "

ونوس : الشيطان الذي سرق جوهر فاوست

ذلك الصراع الأبدي بين الشيطان وبني آدم أغرى من المبدعين من أغرى لتناوله إما بالكتابة أو بصناعة الدراما التي تدور في فلكه ،لو سُئلت الآن عن أكثر عمل درامي مصري كان ومازال يرعبني سأجيب بلا تردد "سفير جهنم" ذلك الفيلم الذي استلهم يوسف وهبي فيه فاوست ولكنه أضاف فيها روحه وصار للقصة مذاق يشبه طعم أعمال يوسف وهبي الخالدة كلها .

وأذكر أيضا فيلم "موعد مع إبليس" بطولة محمود المليجي في دور الشيطان الذي يحاول أن يغوي الدكتور الساخط على حياته وفقره اللاعن لشهادة الطب التي لم تؤت ثمارها "زكي رستم"،هذا الفيلم من أقرب الأعمال المصرية لروح فاوست " الأصل"،أضف إلى ذلك متعة مشاهدة محمود المليجي وهو يجسد الشيطان بمنتهى البراعة.

في رمضان الماضي 2016  شاهدتُ مسلسل " ونوس" المستلهم من نفس المسرحية، في البداية تحمست له كثيراً خاصة وأني أحب يحيى الفخراني بشدة،وبنيت عليه توقعات كبيرة وخابت كلها عند آخر حلقة.

في أول حلقة يصل الصراع لذروته يدخل " ونوس"على أسرة انشراح ليخبرهم أن " ياقوت" الأب الذي هجرهم منذ عشرين عاما مازال على قيد الحياة ويمتلك قصراً وأموالاً، ثم ما يلبث أن يهبط بنا الصراع في كل حلقة إلى هوة التكرار والملل السطحية، تبهت الشخصيات وتدور جميعها في حلقة مفرغة وتعاد الأحداث.

لا أنكر أن بعض أجزاء العمل تستحق أن أقف عندها وأشيد بها،مشاهد" يحيى الفخراني " ذلك الممثل الحق القادر على إتقان جميع التنويعات الأدائية ربما في مشهد واحد فتمتزج جميعها في لحن رائق عذب،موسيقى التتر العظيمة التي صنعها "أمين أبو حافة" فتحولت إلى عمل إبداعي مستقل بداخل العمل ،وربما بعض المواهب الشابة كنهى عابدين التي أدت دورها باحترافية جعلتني أصدقها رغم تحولها الغير منطقي في الأحداث،حنان مطاوع وأراه دور عمرها بذلت فيه جهداً كبيراً، ولكن ككل لم أتمكن من ربط العمل ببعضه كعمل إبداعي ذي شخصية؛فهو مفكك للغاية بعيد تماما عن جوهر النص الأصلى " فاوست ".

ما لم أتجاوزه مطلقاً ولم أقتنع به أبداً هو الدروشة التي غُلف بها العمل،كأن الخلاص في الصوفية وهمهمات الدروايش بأذكارهم،حين تجمع الدراويش برئاسة " القصبي" وهو المعادل لونوس في الحسين وظلوا يردوون"يالطيف يالطيف"انقضى الصراع البعيد بين ونوس وياقوت وحُلت الأزمة.

منذ متى كان الحل كامنا في الدروشة والميتافيزيقات ؟!

في تصريح خاص"للبوابة"يقول عبد الرحيم كمال أن لا علاقة لونوس بفاوست،ولكن إن نظرنا في أحداث المسلسل سنجد أن ونوس وطوال العمل يسعى خلف "ياقوت"فقط ليجعله يوقع عقدا بموجبه ستكون روحه من حق ونوس،ثيمة العقد بين الشيطان وأحد بني آدم ربما لم نشاهدها إلا في فاوست،لو نظرنا لسفر أيوب أو معالجات الصراع في القرآن أو الكتب السماوية،ليس ثمة عقداً بالمرة هناك وسوسة وتحريض شيطاني على فعل الشرور والاتيان بالشهوات لكن لا عقود بيننا ولا مطاردات ولا " لوي دراع "كي نوقع.

ثم نجئ للنهاية التطهيرية، يتوب فاوست وتحمله الملائكة كروح كريمة العنصر لم يقض عليها سعيها،في المسلسل يموت "ياقوت"في مشهد تطهيري تخليصي لأبنائه ناتج أيضا من توبته ربما بعد لحظة تردد كان سيوقع فيها العقد،تخلص الملائكة فاوست ويخلص القبي ودراويشه ياقوت.كما"ونوس"حواره الفلسفي العميق وذكائه الحاد في الإغواء يشبه كثيرا "مفستوفيلس".

وإن كان يختلف المسلسل مع "فاوست" في تسطيح الصراع والعقدة الأصلية، في المسرحية كان فاوست يسعى لجوهر المعرفة لليقين الحق سعي ربما كان في مبدئه نورانيا لم يكن يسعى لمجرد ملذات زائلة أو شباب مؤقت.

في النهاية ما أجبرني فقط على أن أشاهد العمل صاغرة حتى نهايته الأداء المسرحي وشيطنة يحيى الفخراني الغير مفتعلة رغم عينيه الطيبتين وضحكته الصافية،وإن كانت النهاية كلاسيكية جداً ومهترئة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية 






مقالات من نفس القسم