ترجمة: سعيد بوخليط
غاية الآن، وقد أسهبنا في الحديث عن أولوية الخيال الدينامكي مقارنة مع خيال الأشكال، سندرك استحالة تكاد تكون شبه تامة بخصوص تكييف جناح الطائر مع الشكل الإنساني. ليست هذه الاستحالة نتيجة صراع بين الأشكال، بل تتأتى القضية من تباعد مطلق بين شروط التحليق البشري (التحليق الحُلُمي) وكذا التمثيل الواضح لصفات مرتبطة بكائنات فعلية تحلِّق في الهواء. يكمن طلاق، بالنسبة لخيال التحليق، بين الصورة الديناميكية وكذا الشكلية. بوسعنا إدراك صعوبة قضية تصوير التحليق الإنساني من خلال تجريب مختلف الوسائل التي يستعملها خيال الأشكال حتى يوحي بحركة التحليق.
لقد أصدرت فيليت جين كتابا رائعا غزيرا بالوثائق، حول المَلاَك في الفن الغربي:”سيمثل مراهنة بالنسبة إلى نحَّات- تؤكد فيليت (ص 26)- حينما يُلتمس منه إبداع توهّم اللامادي، بقدر تعارض شروط عمله مع ذلك”. سرعان ما نكتشف بأنَّ الأجنحة الإنسانية ورطة. تظل جامدة، سواء خلقناها كبيرة أو صغيرة، متثاقلة أو منتعشة، يكتسيها ريش أو ملساء: لا يتعقب الخيال؛صورة وتمثالا مُجَنَّحا، يفتقدان لحركة.
إنها ممارسات غير مباشرة، في نهاية المطاف، تسوِّي بشكل أفضل – في نطاق الممكن- قضية إبراز التحليق الإنساني. سيتم إذن الإبقاء على الأجنحة باعتبارها علامات مجازية للتحليق، قصد إرضاء التقليد والمنطق، وسنبحث في موضع آخر عن إيحاءات ديناميكية، مرارا أن توحي أكثر فعالية من الإبراز.
سنلاحظ، مثلا، نوعا من تفطُّن العبقرية بأن جذبت الانتباه صوب حركة تضفي فعالية على الكَعْبِ. في هذا السياق، أوضحت جين فيليت، تميُّز بعض ملائكة مايكل أنجيلو(ص 164)، بخاصية تجلت في كون :”مجرد حركة لساقهم المرفوعة، تبدو كافية قصد توجيه تحليقهم”.
أيضا، أوضحت جين فيليت استلهام العديد من الفنانين للسباحة في أفق حلِّ قضية التحليق من خلال تمثيل الملائكة(ص 162) :”الجسد مائل أو أفقي تقريبا، ملقى فوق غيوم، النصف الأعلى مستقيم، الساعدان مبسوطان أو الساقان مرفوعان، تعبر الملائكة قبة السماء الزرقاء على هيئة سباحين يشقُّون الأمواج، وكذا الخطوط الطويلة الموازية التي تحيط بها، مما يجعل التوهم أكثر قوة ”. يبدو خيال المياه طاغيا، من خلال هذا النموذج، لأنه استحضر بالنسبة للخيال الهوائي صورة مخور السفينة.
بهذا الخصوص، تعيد الآنسة فيليت (ص 80) إنتاج تصوير جداري دالٍّ جدا، لصاحبه بينوزو غوزولي. بحيث بدت لنا مفيدة جدا مقارنة مع باقي الأشياء الأخرى، براعة رسام وضع السباحة محل التحليق، فقد سبق أن رأينا، فيما يتعلق ببعض أنماط الخيال، تلك الاستمرارية من السباحة إلى التحليق، وفق دلالة هذا الترتيب من السباحة فالتحليق. في المقابل، تنعدم أيّ استمرارية من التحليق إلى السباحة. الجناح هوائي أساسا. نسبح في الهواء، لكننا لانحلق وسط الماء. بوسع الخيال مواصلة أحلامه المائية في الهواء. بينما لايمكنه بعد ذلك، أن يحيا التعالي المتخيّل المعكوس.
نوضح إذن، اقتفاء الفنانين بكيفية لاواعية، التسلسل المنتظم للخيال الديناميكي، وبأنهم يستخدمون حلم السباحة كي يلهموا المشاهد إيحاءات التحليق.
أحيانا، ينجز النحات ليس وهمية التحليق، بل دعوة معينة وجهة تحليق جذَّاب مرغما العين كي تجوب أشكالا. هكذا، أعطت جين فيليت (ص 20) :”إلى الشكل أبعادا منطلقة تفاقم المفعول من خلال رهان أقمشة فضفاضة بسيطة يسودها الخط المستقيم. تقتفي النظرة أثر هذه الخطوط المتعالية وتنشغل عن وزن المادة”. بمعنى ثان، ينعم الخيال الديناميكي في إطار شكل ساكن منطلق، اندفاع يوقظ حلمه الفطري متجها به نحو الارتفاع.
لن نتأمل طويلا العبارة التالية :إنَّ شكلا رشيقا بمثابة صورة يتقاطع عندها الخيال الشكلي والديناميكي. طمس استهلاك الكلمات، في هذه العبارة، تقريبا مختلف السمات الديناميكية. يلزم كي نعيد إلى الصورة قوتها الحُلُمية، ومن ثمة دلالتها المطلقة، تطعيمها بكيفية معكوسة. نعيد بالتأكيد تسليط الضوء على الشكل الرشيق، ونوجه الإدراك نحو كونه اندفاعا مُتَشَكِّلا. مما يتيح لنا إمكانية أن نعيد للخيال الديناميكي دوره كخالق للأشكال. تلزم الإشارة، بأن كل شكل منطلق ينزع نحو الأعلى، والضوء. إنه وثوب متشكِّل يمتد نحو الهواء النقي، والمضيء. لانتصور قط دلالة شكل منطلق ينزع الأسفل، موحيا بالسقوط. يعكس وضع من هذا القبيل –في خضم سمو الخيال- مظهرا عن ديناميكية هوائية عبثية.
لكي نحيا عند تقاطع خيال الأشكال وكذا خيال القوى، يوجد عمل فعال، بكيفية خاصة، عمل شاعر ونَحَّات، أقصد تحديدا منجز ويليام بليك. ميزت هذا العمل حُلُمية قوية، كما تحرِّضه أيضا فصاحة شعرية كبيرة جدا، قدمت نموذجا استثنائيا بالنسبة لهذه الحياة المنطوقة والتي سنعود إليها بين فقرات خلاصاتنا.
يمكن تسمية بعض قصائد بليك بالقصائد المطلقة، بمعنى قصائد لاتترجم أفكارا، لكنها تربط داخل الكلمات نفسها المادة المتخيَّلة وكذا شكل الأطياف، حركة الكلام، وكذا حركة الجسد ”الفكر والحركة” أو بشكل أفضل، المتكلِّم والمتحرِّك. مثلا، لايمثِّل تحليق الأفكار عند بلاك صورة مستهلكة، ومجازا دون تأثير. تغدو هنا، الكلمة الشائخة، فتية تماما، يحيطها هذا الحماس النفسي الذي أنعش نصوص ويليام بليك المعنونة ب”كتب النبوءة”. نعاين بين صفحاتها، تنبأ صور لفظية. فلايوجد فكر كامن متكهِّن.
مَثَّل بالتأكيد تحليق الأفكار عند بلزاك، حركة حقيقية، لكنها حركة بقيت عامة خضعت لخيال هوائي رتيب. بينما عند بليك، فيأخذ تحليق الأفكار تعددية مختلف تحليقات الطائر الفعلية. لذلك، يمثل التحليل النفسي بصيغته المتجلية عند ويليام بليك مقاربة نفسية حقيقية لمبحث علم الطيور.
عبر صفحات كتابه”رؤى فتيات ألبيون”، تمرّ صور النسر، العندليب، القبَّرة، الصقر، الحمامة، البجع، العاصفة، السهول، الريح…بحيث أمكننا خلال عشر صفحات إحصاء خمس وعشرين جسما محلِّقا. تحليقات ملموسة، بمثابة أصل الحركات الكونية التي تكتسح النص. صور مدهشة، تجعلنا نفهم أنه بالنسبة للخيال المحلِّق، يستميل التحليق الكون، يحفز الروح، يضفي على الهواء وجوده الديناميكي. هكذا يكتب ويليام بليك(كتاب النبوءة، الجزء1، ترجمة بيرجي، ص111) : “يأخذ طائر البحر عاصفة الشتاء، كساء لجسده”. فكيف لانشعر ديناميكيا، اتخاذ الطائر من أثر سيره معطفا؟أليس هذا المعطف الثائر من يحدث هذا التعميم للعاصفة الشتوية؟ تنفث كائنات أسطورية العاصفة، تسكن الأخيرة دواخل فمها. بالنسبة لويليام بليك، تصدر العاصفة كليا عن الجسد. يعكس طائر البحر بشكل عميق، كائنا عاصفا، وكذا النواة الديناميكية للعاصفة.
بالنسبة لويليام بليك، التحليق حرية العالم. لذلك، يهين مشهد الطائر السجين ديناميكية الهواء. نقرأ هذا المقطع الشعري الثنائي، ضمن مقاطع القصائد التي شكلت فيما بعد الجزء الثاني من ”كتب النبوءة”(ص 205):
طائر أبو الحناء وسط قفص
أثار سخط كلّ أرجاء السماء.
هكذا، يجسد الطائر هواء حرا مُشَخْصنا. لنتذكر بأن اللغة الألمانية أعادت الطائر إلى أقصى مستويات حريته. إنها لاتقول على نحو إضماريّ :حر مثل الهواء، ولكن حقا”حر مثل الطائر في الهواء”.
أيضا، كيف لايمكننا تمثُّل ديناميكية الفكر الهائم عبر هذه المقطع :”آه أيها الفكر، إلى أين تسير؟ نحو أيّ بلد بعيد يأخذك تحليقك؟هل تحمل أجنحتك إن عدتَ صوب لحظة الشقاء الحالية، السلوى والعسل، النَّدى والبلسم، أو سمّ الصحاري المهجورة، الذي يتأتى من عيون حاسدة؟”. كيف يمكننا التردد بخصوص التشديد على نبرة تصورات من هذا القبيل، حينما، نصادف قبل ذلك بين طيات سطور أخرى السؤال التالي :”ما الجوهر الذي يؤسس الفكر؟” يلزم الإجابة على هذا السؤال، كي نفهم خيال ويليام بليك :يتشكل الفكر بالكائن الذي أبدعته حركته. فكر ويليام بليك مادة ريح شمالية. مثلا، ألا يبدو سلفا، وحشيا فكر التحليق القوي عند النسر؟إنه يخلق من تلقاء ذاته نسرا جشعا. بالنسبة لمن يفكر سريعا، ضربة قوية للجناح، تفترس الحَمَل.
أجنحة أخرى تجلب العسل :”انهضي أيتها الأجنحة المتلألئة، وانشدي سعادتك الطفولية !انهضي، ارتشفي سعادتك، لأن كل ما يعيش يعتبر مقدسا”هذه المرة، فالأجنحة تغني.
سندرك بسرعة، حين قراءتنا ويليام بليك ديناميكيا، بأنه بطل صراع بين الأرضي والهوائي. تحديدا، بطل الانتزاع، الكائن الذي يرفع رأسه خارج المادة، الكائن الغريب الذي يوحِّد بين ديناميكيتين :مغادرة الأرض والوثوب نحو السماء.
ورد في كتاب ويليام بليك ”تيرييل”مايلي:”حينما تلامس الحشرة جل امتدادها كحيوان زاحف”. يوقظ هذا التمدد كل الزاحف بين طيات خيالنا الديناميكي. وقد خلفت ديناميكية الزاحف لدى ويليام بليك سمات مرئية في صفحات عديدة تتجلى بوضوح حينما نقرأها ديناميكيا، ليس وفق طاقة رخوة جاهزة، بل تبعا لحركات منتظمة. بوسعنا من جهة ثانية، بهذا الخصوص، مقارنة القوة الزاحفة عند بليك وكذا الحركة المتموجة والرخوة لليرقة كما صورتها صفحات كتاب فاسيلي روزانوف المعنون ب”قيامة زماننا”(1). سيظهر لنا فعلا التباين بين حركة عجين حي وكذا الحركة الواعية بمفاصلها الصلبة.
ويليام بليك، شاعر الديناميكية الفِقَارِيَّة، بحيث تمثَّل كل صورها ويعيش مجمل تاريخها، كما يعرف جل ارتداداتها. بناء على سيادة الخيال، وكذا علم الحفريات، تنبثق الطيور من الزواحف؛ مثلما تواصل تحليقات الطيور المشي الزاحف للثعبان.
ينتصر الأشخاص من خلال تحليقهم الحُلُمي، على البدن الزاحف. مقابل ذلك، ونتيجة تشنجات أحلامنا، يتذكر أحيانا العمود الفقري بأنه كان ثعبانا(2). كتب بليك(ص 157) : “خلال نوم مرعب زاخر بالأحلام، يتلوى وجعا حول الرياح، عمود فقري ضخم، يشبه حلقات سلسلة، فتبعث ذاته ضلوعا مؤلمة، مثل مغارة مستديرة، وعظاما صلبة تتجمد على امتداد أعصاب مباهجه؛هكذا ينقضي عهد أول وكذا حالة كآبة محزنة”.
لنعاين قليلا عن قرب هذا الكابوس الأرضي كي نفهم بشكل أفضل الرؤيا المحلِّقة للهوائي. سنرى حينئذ بأن الصور الهوائية فتوحات متأخرة، والجهاز العضوي الهوائي حرية صعبة.
لنفهم أولا بأن وعي الزاحف متعلق بأسفل الظهر(ص 161 ) :”طيلة اليوم، تتمدد الدودة على صدرها. خلال الليل، تتمدد الدودة على جانبيها غاية أن تصبح ثعبانا يلتف بصفيره الموجع وسُمِّه، حول كليتي إينيتارمونEnitharmon “(3). يحتاج ألم الانثناء إلى فَقْرِيات، سيخلق التعذيب الالتواء، ثم يخلق الالتواء الفِقْرَات. الدودة رخوة بما يكفي كي تتألم، لذلك تغدو ثعبانا. الثعبان، كائن عنده كِلْيَتين في كل مكان : “تحت كنف جناحي إينيتارمون، ينمو الثعبان، ملقيا بقشور. ثم جراء أوجاع حادة، يبدأ الصفير في التغير إلى صرخة متنافرة؛ أحزان عدة، آلام مرعبة، أشكال متعددة للسمك، الطائر، الحيوان، تمنح ولادة إلى شكل للطفولة، تواجدت هنا حيث كانت قبل ذلك، دودة”(ص 161).
هكذا تنشأ الأشكال من بروتوبلازم (الجبلة الأولى) معذَّب، تحققات للآلام. ينبثق الأصل من نار جهنم بينما ينبعث الذي تمَّ تقويمه نتيجة الالتواء. يخضع كل ماهو أرضي عند ويليام بليك إلى ديناميكية الالتواء. فالأخير بالنسبة إليه، صورة أولية. هكذا، يستعيد بليك في هذا السياق صورة الدماغ (ص 165) :”أوتار ملتوية جدا، وحلقات مشدودة كفاية ببعضها البعض، ملتوية مثل الدماغ الإنساني”.
انطلاقا من هذا الفضاء المعقوف، وانثناء فكر لم نفهمه جراء هفوة في اكتشاف تعذيبه الأول، يتشكل هذا المبدأ الهوائي حيث انبثاق ويليام بليك :انبثاق يظل مؤلما. يصبح مع ذلك حرا ومستقيما، لكنه يحافظ على الألم الأصلي للتقويم.
يحوم طيفي حولي ليلا ونهارا
مثل حيوان شرس يحرس طريقي
انبعاثي، بعيدا حقا عن ذاتي
يبكي دون توقف حيال خطيئتي.
بئيس، شاحب، شكل يدعو للشفقة
أنا وسط العاصفة !
أزهار الحديد وكذا عويل الرصاص
تحيط برأسي الموجِع.
(رسائل، ترجمة ديزي وجان أودارد، 1939، ص ص. 43- 41.
…………………………………………
مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :Lair et Les songes. Essai sur l imagination du mouvement(1943). pp :90 -95.
(1)فاسيلي روزانوف : قيامة زماننا (1929).
(2) فيكتور هيغو : الإنسان المبتسم. هيتزيل (1883) ص :73″العمود الفقري له تأملاته الشاردة”.
(3) إينيتارمون : شخصية نسائية رئيسية في أسطورة ويليام بليك(المترجِم).