سعيد بوخليط
استند التأويل الشعري عند غاستون باشلار بخصوص مقاربته للقصيدة، وفق تصور أولاني وأصيل أراده بهذا الخصوص، على استشراف معادلات من صنف الارتجاجات اللغوية التالية؛حتى لاأقول البيانات، لأنَّ باشلار رفض دائما استدعاء الإحالات البيروقراطية لهذه الكلمة:
(1)
لاتوجد قصيدة سابقة عن المفعول الخلاَّق للفعل الشعري، مثلما لا تكمن حقيقة قبلية عن الصورة الأدبية. يتكلم الخيال داخلنا، تتكلم أحلامنا وأفكارنا . يرغب كل نشاط إنساني، في التكلم. حينما يعي الكلام بذاته، يسعى النشاط الإنساني حينئذ إلى الكتابة، بمعنى تنظيم الأحلام والأفكار.
(2)
تمثِّل القصيدة ظاهرة أولى للصمت. تبقي الصمت المنتبِه، حيَّا، بين طيات الصور. تتأسس القصيدة ضمن سياق زمن صامت، لاشيء يثقل عليه، يخضعه أو يأمره؛ لأنه زمن حريتنا. تنمو جيولوجية الصمت، حين البحث عن فكر مختبئ تحت الترسبات التعبيرية. يجدر حين توخي دراسة اندماج الصمت في القصيدة، ضرورة استيعاب أن مبدأ الصمت في القصيدة، يجسِّد فكرا مضمرا ومتواريا.
(3)
يمثِّل النَّفَس الشعري قبل كونه مجازا، حقيقة بوسعنا العثور عليها في حياة القصيدة هكذا على الأقل، حال القصائد التي تتنفُّس جيدا، وتعكس خطاطات ديناميكية جميلة عن التنفُّسِ.
(4)
توقظ القصيدة الحقيقية رغبة غير قابلة للكبح، كي تُقرأ ثانية، تبث لدينا انطباعا مفاده أن القراءة الثانية، ستقول بصددها أكثر من نظيرتها الأولى، وبأنها أيضا– مع اختلاف كبير عن قراءة عقلانية– تعتبر أكثر تؤَدَة من الأولى، لأنها متأمِلة. لن نتوقف أبدا في إطارها عن الحلم بالقصيدة، ولاقطعا التوقف عن التفكير فيها. أحيانا يأتي مقطع شعري كبير، يغمره حزن أو فكر ما، يهمسه القارئ – القارئ المنعزل-: لن يكون هذا اليوم كما البارحة.
(5)
حينما نكتب، نتأمل، يبرز إلى السطح تعدد أصوات، باعتباره صدى خلاصة . امتلكت باستمرار، القصيدة الحقيقية، طبقات متعددة.
لايمكِّن الإصغاء أبدا من الحلم بالصور في العمق. هكذا، اعتقد باشلار دائما بأنَّ قارئا متواضعا يتذوق على نحو أفضل القصائد بإعادة كتابتها بدل إنشادها. تتجاوز القصيدة المكتوبة كل إنشاد.
(6)
القصيدة موضوع زماني جميل يخلق مقياسه الخاص. كمْ يتجلى بؤس الوقت الجاري، لقاء الأزمنة التي تبدعها القصائد!
(7)
لاتعبِّر القصيدة، عن شيء يظل بالنسبة إليها غريبا، حتى الجانب التعليمي الشعري الخالص، الذي يوضح القصيدة، يعجز عن تقديم وظيفة الشعر الحقيقية.
(8)
حينما تدرك القصيدة كيفية تجميعها في إطار حقيقتها الهوائية، ستغدو أحيانا مهدِّئا رائعا. أيضا، يعرف المقطع الشعري اللاذع والبطولي سبيل الحفاظ على ذخيرة من النَّفَس. ترتهن كل قصيدة – القصيدة التي ننشدها، أو المقروءة صمتا- إلى هذا الاقتصاد الأولي للأنفاس.
(9)
يوجد شعراء صامتون، يلازمون الصمت، يتطلعون أولا صوب إعادة السكينة إلى عالم صاخب جدا . يسمعون كذلك، ما يكتبونه، لحظة كتابته، من خلال المقياس البطيء للغة مكتوبة. لايستنسخون القصيدة، بل يبدعونها. سيتذوق هؤلاء الشعراء، إيقاع الصفحة الأدبية حيث يتكلم الفكر، ويفكر الكلام .
(10)
وفق صيغتها البسيطة، الطبيعية، الأولية، بعيدا عن كل طموح جمالي وكل ميتافيزيقا، فالقصيدة بهجة النَّفَسِ، بداهة انشراح أن تتنفَّس. تسحق القصيدة الكلاسيكية، وكذا البلاغة مثلما ندرسها، آلاف الصور المتكلِّمة.
(11)
تولد القصيدة في خضم صمت وعزلة الكائن، منفصلة عن السمع والنظر، بالتالي اعتبرها باشلار ظاهرة أولى لإرادة الإنسان الجمالية.
العودة إلى مبدأ الصمت، بتوحيد الصمت المتأمِّل واليقظ ثم نحيا من جديد إرادة التكلم في إطار حالته الناشئة، ترنيمته الأولى، افتراضية تماما، وبيضاء. سيظهر العقل والإنشاد الصامتين، مثل عنصريين أوليين للصيرورة الإنسانية.
(12)
لنحاول اختزال كل وجودنا صمتا، كي نشعر بذلك جيدا، بحيث لانصغي سوى لِنَفَسِنا، ونصبح هوائيين مثل نَفَسِنا، لانحدث ضجيجا سوى نَفَسا، نَفَسا خفيفا، نتخيَّل فقط الكلمات التي تتشكَّل على ضوء نَفَسِنا. حينما نعيد الخيال المتكلِّم إلى حرية التنفُّسِ، سيقترح على أية حال صورا شفوية جديدة.
(13)
يحتاج الإنسان، قبل كل فعل، الحديث إلى نفسه، من خلال صمت كائنه، حول مايريده لصيرورته؛. يثبت وينشد تلك الصيرورة. هنا تكمن الوظيفة الإرادية للقصيدة. يلزمها أن توضع في إطار علاقة مع مثابرة وشجاعة الكائن الصامت.
(14)
تظهر لنا الصورة الأدبية، عبر الاشتغال الداخلي لقيمها الشعرية، أنَّ تشكّل ثنائية لفظية، يعدّ نشاطا لسانيا طبيعيا وخصبا، حتى مع انعدام حضور لغة عليمة قصد الإمساك بالمعنى الجديد، ستتمكن حساسية لسانية كي تبيِّن بامتياز حقيقة ازدواجيات المعنى.
(15)
يبتهج الخيال بالصورة الأدبية. ليس الأدب بديلا عن أيِّ نشاط ثان. بل، يتمم رغبة إنسانية ويعكس انبثاقا للخيال.
تكفي أحيانا صورة أدبية، كي تنقلنا من عالم صوب آخر، فتتبدَّى الصورة الأدبية باعتبارها الوظيفة الأكثر تجدُّدا للغة. لغة، تتطور بصورها، أكثر من مجهودها الدلالي.
تهتدي بنا صور أدبية، نحو تأملات لانهائية، صامتة. فندرك لحظتها، امتزاجا عميقا للصمت مع الصورة ذاتها.
(16)
تعكس صورة أدبية، معنى حالة ناشئة؛ تأتي الكلمة – الكلمة القديمة- كي تنعم بدلالة جديدة. يلزم الصورة الأدبية الاغتناء بحُلُمية جديدة . الدلالة على شيء آخر، ثم التحريض على الحلم بكيفية مختلفة، تلك بمثابة المهمة المزدوجة للصورة الأدبية.