غاستون باشلار الخيال والحركة (3/3)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترجمة: سعيد بوخليط

تعود إلى علم النفس الميتافيزيقي مهمة توطيده بالنسبة للخيال الديناميكي مُضخِّما حقيقيا للنفسية المتسامية. إذن، وبكيفية دقيقة جدا، فالخيال الديناميكي بمثابة مُضخِّم نفسي.

نريد فعلا الاعتقاد بأننا أشرنا إلى مسألة الوعي بصعوبات موضوعنا. لقد تساءلنا غالبا، بخصوص مدى”إمساكنا بالموضوع”. هل يشكِّل موضوعا، تلك الدراسة التي تهتم بصور عابرة؟مادامت صور الخيال الهوائي، تتبخَّر أو تتبلور. بالتالي، يلزمنا دائما تناولها بين قطبي هذه الازدواجية الديناميكية. لذلك، ينبغي لنا تبيان الإخفاق الثنائي لمنهجيتنا :

يتحتم على القارئ مساعدتنا، من خلال تأمله :بكيفية ذاتية، حتى يحصل، في غضون المدة القصيرة للحلم والفكر، الصورة والكلام، على التجربة الديناميكية للكلمة التي تعكس في الآن ذاته حلما وفكرا.

تمثل فورا كلمتا جناح وسحابة، دليلا على الثنائية الوجدانية بين الواقعي والمتخيَّل. يفعل القارئ مباشرة ما يريده :نظرة أم رؤيا، حقيقة جلية للعيان أو حركة يستحضرها الحلم. لذلك، نلتمس من القارئ، أن يعيش هذه الجدلية، ثم حالاتها المتعاقبة، لكن أيضا الجمع بينها وفق تناقض وجداني يتيح لنا إمكانية فهم الحقيقة كقوة للحلم وبأن الحلم حقيقة.

للأسف !هي لحظة مقتضبة. بحيث يلزم الاعتراف بكوننا نرى سريعا أو نحلم بشكل أسرع. لذلك، نجسِّد مِرآة للأشكال، أو مجرد عبد أخرس نحو مادة جامدة.

هذه الإرادة المنهجية بخصوص استدراج قضيتنا كي تكتسي قوام تسامٍ استطراديّ يرتبط بالتفاصيل، منتقلا باستمرار بين الانطباع والتعبير، تحظر علينا مقاربة قضايا الانتشاء الديني. بالتأكيد، هي قضايا تنهض على تحليل نفسي متكامل للتعالي. لكن زيادة، على افتقادنا لكفاءة مقاربتها، فإنها لا تتناسب سوى مع تجارب نادرة جدا فيما يتعلق بطرح القضية العامة للإلهام الشعري(1).

أكثر من ذلك، لاتمتد أبحاثنا نحو التاريخ الطويل لعلم الظواهر الروحية التي لعبت على امتداد العهود، دورا كبيرا جدا. يلزمنا تجاهل تلك الوثائق، مادمنا نتوخى القيام بدور عالم نفس وليس مؤرخ. بناء عليه، لن تستلهم صفحات عملنا الحالي، وكذا باقي أبحاثنا الأخرى حول الخيال، سواء من الأسطورة وكذلك علم الشياطين، إلا مابدت فعاليته دائما بالنسبة لروح شاعر، ثم مايحفِّز باستمرار فكر حالم يعيش بعيدا عن الكتب، أمينا حيال الرؤى اللانهائية للعناصر الطبيعية.

مقابل كل هذه التحديدات الصارمة لموضوعنا، نلتمس من قارئنا السماح كي نهتدي به ثانية دون توقف وجهة السمة الوحيدة التي نرغب في فحصها بين طيات الصور الهوائية : حركتها، من خلال إحالة هذه الحركة الخارجية، على الحركة التي تثيرها الصور الهوائية في كينونتنا. بمعاني أخرى، الصور من وجهة نظرنا، حقائق نفسية. تكمن الصورة داخلنا، ابتداء من ولادتها وكذا اندفاعها، كمجال لفعل تخيَّل وليست ذيلا له. هكذا، يتم تخيّل العالم في خضم التأمل الشارد الإنساني.

ونقدم الآن عرضا سريعا لطبيعة مخططنا.

بعد هذه المقدمة المفرطة فلسفيا والمجردة، سنعرِّج بكيفية سريعة جدا في الفصل الأول، على مثال ملموس وبارز عن الحُلُمية الديناميكية. سندرس بين صفحاته فعلا، حلم التحليق. يظهر معه ربما أننا سنبدأ بتجربة خاصة جدا ونادرة للغاية. لكن، ستنصب مهمتنا تحديدا، حول إظهار تواتر هذه التجربة أكثر مما نعتقد، وبأنها تترك على الأقل لدى بعض النفسيات، آثارا عميقة، بين طيات فكر عتيق. بل سنوضح، بأنها آثار تشرح مصير بعض الشعريات. مثلا، تنكشف خيوط صور طويلة جدا، من خلال تكاثرها المضبوط والمنتظم، حينما سنكتشف حلم التحليق الذي يمنحها اندفاعها الأول.

بشكل خاص، صور أخِذَت من أعمال متنوعة جدا لشيلي، بلزاك ، ريلكه، سنوضح معها بأنَّ تحليلا نفسيا ملموسا لحلم التحليق الليلي، يتيح إمكانية تبيان الملموس وكذا العام ضمن قصائد غالبا غامضة وعابرة.

إذن، انطلاقة قوية في إطار علم نفس طبيعي غير مستند على أيِّ بناء قبلي، منحتنا إمكانية دراسة شعرية الأجنحة، في الفصل الثاني. سنعاين، اشتغال صورة تتمتع بالحظوة بالنسبة للخيال الهوائي.

تفضي بنا ملاحظاتنا السابقة، نحو وسيلة تتأتى لنا بفضل الخيال الديناميكي قصد التمييز بين الصور المصطنعة وكذا الصور الطبيعية حقا، ثم بين شعراء يقفون فقط عند حدود إعادة استنساخ ماسبق، وكذا شعراء آخرين يحفِّزون فعلا قوى الخيال المبدعة.

في خضم فقرات عرضنا، سنقدم بما يكفي أمثلة عديدة عن التحليل النفسي للتعالي الايجابي كي نتمكن أيضا من تحديد نفسي، تبعا لشكلها السلبي، مختلف مجازات السقوط المعنوي. معطيات، اشتغل عليها الفصل الثالث، مما اقتضى حينها جوابا بخصوص اعتراضات عدة تنزع نحو إلزامنا كي نعتبر تجربة السقوط المتخيَّل مثل معطى أولي للخيال الديناميكي.

جوابنا بسيط للغاية. نطرحه في هذا السياق لأنه يضيء أطروحاتنا العامة :

فقط بالنسبة لخيال أرضي، يقود السقوط المتخيَّل نحو مجازات أساسية.

السقوط العميق، بين ثنايا الحفر المظلمة، ووسط هاوية، يعتبر تقريبا بكيفية حتمية سقطات متخيَّلة في علاقة مع خيال المياه، أو خاصة خيال أرض دامسة. كي نصنف كل مقاماتها، يلزمنا تأمل مختلف تجليات أحزان أرضِيٍّ بصدد المقاومة، إبان لياليه المأساوية، ضد ذلك الانهيار الذي لايتوقف عن تعميق فجوة حفرته، وقد وُظِّفت في سبيل ذلك المِجرفة والفأس، ثم الأيادي والأسنان على امتداد هذا المنجم المتخيَّل حيث معاناة كثير من البشر تحت سطوة كوابيس جحيمية. انحدارات كهاته صوب جهنم، لايمكن وصفها من وجهة نظر الخيال الشعري، إلا إذا امتلكنا القوة كي نقارب ذات يوم، انطلاقا من الزاوية النفسية الخيال الأرضي المادي، الصعب والمتعدد.

في الكتاب الحالي، الذي كرَّسناه فقط للخيال المادي والديناميكي المتعلق بالمائع الهوائي، لن نصادف قط خيال السقوط سوى كصعود عكسي. بناء على هذا التصور غير المباشر– التثقيفي جدا من ناحية أخرى- نبلور حيثيات الدراسة الجزئية التي تتلاءم مع موضوعنا الحالي.

ما إن ندرس السقوط النفسي في صيغته الديناميكية المبسَّطَة، سيكون أمامنا جل مايلزم بهدف فحص الرهانات الجدلية بين الدوخة وكذا الحظوة. سنقيس أهمية شجاعة الموقف وكذا القامة، شجاعة أن تعيش ضد الجاذبية، فتحيا”عموديا”.

نُثْني على معنى البعد الصحي لانتصاب القامة، والارتقاء، وكذا الهامة المرتفعة.

لقد وَجَدَت سلفا، هذه الوقاية، والعلاج بالمنحى العمودي وكذا المرتفعات المتخيلة، محلِّلها النفسي وكذا طبيبها المتمرس، عندما حاول روبير ديسويل، عبر نصوص أعمال غير معروفة بالكيفية المتوخاة، تعضيد داخل نفسيات عُصَابية، ردود أفعال تحكمها شروط، تنصهر بين طياتها قيم الارتقاء :الارتفاع، النور، السلام.

بين دفتي فصل خاص، قمنا بواجب إثارة الانتباه وتسليط الضوء على مشروع روبير ديسويل، الذي كان بالنسبة إلينا، خلال عدة أقسام من هذا البحث، مساعدا لاغنى عنه. لن نتردد كذلك، من جهة ثانية، في هذا الفصل مثلما الشأن مع باقي الفصول، كي نتذرع بملاحظات نفسية قصد تطوير أطروحاتنا الخاصة حول ميتافيزيقا الخيال، الميتافيزيقا التي تظل في المجمل هدفنا المعلن.

مثلما فعلنا مع نار هوفمان، وكذا الماء مع إدغار بو وسوينبرن، نعتقد بأن اهتمامنا فيما يتعلق بالهواء، قادنا نحو تناول أكبر مفكر وأكبر شاعر باعتباره نموذجا أساسيا بهذا الخصوص. هكذا، بدت لنا إمكانية استحضار نيتشه كرمز لعقدة التعالي. لقد وضعنا هدفا يتمثل في جعل الفصل الخامس بوتقة تحوي، مختلف الرموز الملتئمة طبيعيا- بحتمية محض رمزية- صوب ديناميكية الارتفاع. سنرى ثانية بأيِّ سهولة، ووفق أيِّ انسياب طبيعي، يجمع العبقري بين الفكر والخيال؛ثم كيف ينتج الخيال الفكر عند العبقري، بعيدا على أن يكون الفكر مجرد بحث عن بهرجة داخل مستودع للصور. حين العودة إلى إهليلج لوبيك ميلوز المدهش، نقول عن نيتشه :”وقد تسامى، سينتصر”. يساعدنا على التجاوز، نظرا لانقياده بوفاء مدهش لخيال الارتفاع الديناميكي.

حينما سنفهم، وفق مداه الكبير جدا، ثم تبعا لأقصى حمولته، المعنى الديناميكي لدعوة صوب وجهة سفر خيال هوائي، بوسعنا حينها توخي تحديد الموجِّهات المتخيَّلة التي يمكننا ربطها بمختلف الموضوعات والظواهر الهوائية. سنظهر، فيما بعد، عبر فقرات فصول مقتضبة، المنحى الهوائي بالنسبة لصور شعرية جيدة كما الشأن مع صور السماء الزرقاء، كوكبة النجوم، السحب، وكذا مجرة درب التبَّانة .

بعد ذلك، خصصنا فصلا ل الشجرة الهوائية كي نظهر فعلا بأن كائنا أرضيا قد يحلم إذا اقتفى مبادئ المشاركة الهوائية.

مثلما فعلنا في كتابنا الماء والهواء، حينما أبرزنا تيمات الماء العنيف، سنطرح على نفس المنوال بعض الوثائق حول الهواء العنيف، وكذا الرياح الهائجة. لكن لدهشتنا الكبيرة، لم نجد وثائق شعرية في غاية الوفرة والتعدد، رغم قراءات غزيرة ومتنوعة. يبدو بأن شعرية للعاصفة، وهي أساسا، شعرية للغضب، تلتمس أشكالا أكثر حيوانية من السحب التي يسوقها الإعصار. سيبقى العنف إذن خاصية ترتبط بكيفية سيئة بنفسية هوائية. تصبو الديناميكية الهوائية، وفق استعداد أكبر كي تصبح ديناميكية للنَّفَسِ العذب.

مادمنا أخذنا تقريبا جل وثائقنا من الشعراء، فقد توخينا العودة، بين صفحات الفصل الأخير، إلى إشكالية الإلهام الشعري. لذلك، وضعنا جانبا مختلف قضايا النَّفَسِ الواقعي، وكل علم نفس للتَّنَفُّس الجديرة طبيعيا بأيِّ تحليل النفسي للهواء تأملها. بالتالي، بقينا إذن ضمن مضمار الخيال. حتى مايخص جانب النبر، لم نحاول الكلام إبان سياقنا ذاك عن الصيغة العلمية. ضمن هذا المجال الدقيق، أظهرت بشكل واضح جدا، الأبحاث الثاقبة لبيوس سيرفيان، علاقات التغيرات بين النَّفَس والأسلوب.

نعتقد إذن في إمكانية بقاء تموقعنا عند ممكنات وجهة نظر مجازية بشكل قوي، وعبر صفحات معنونة ب : الخطابة البكماء. حاولنا، إبراز الحيوية التي يحصل عليها الكائن حين امتثاله جسدا وروحا إلى هيمنة الخيال الهوائي.

بعد عرض أفكار مجهودات مختلفة، وجب الإفضاء إلى خلاصة، واتجهنا بهذا الصدد نحو ضرورة كتابة فصلين وليس مجرد فصل واحد.

يختزل الأول وجهات نظرنا، المنطوية عليها مجمل صفحات هذه الدراسة، فيما يتعلق بالخاصية النوعية حقا للصورة الأدبية. أقصد وضع الخيال عند مقام نشاط طبيعي يتطابق مع فعل مباشر للخيال حول اللغة.

بينما استعاد من جديد الفصل الذي تضمن الخلاصة الثانية، تصورات فلسفية لم نتمكن من إعطائها استمرارية كافية على امتداد الدراسة. خلاصة توخت إعطاء الصور الأدبية موقعها الصحيح كمصدر للحدس الفلسفي، ثم حاولنا كذلك إظهار بأن فلسفة للحركة بوسعها تحقيق مكسب إذا اتخذت لها مكانا في مدرسة الشعراء.

…………………………………….

 *مصدر المقالة :

Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943. PP :23 -28.

(1)سنصادف عرضا متكاملا جدا للقضية، مع بيبليوغرافيا وافرة، بين صفحات كتاب أوليفيي لوروي، المعنون ب :”التحليق”، مساهمة تاريخية ونقدية في دراسة الخارق، مارس1928 .

مقالات من نفس القسم