أيمن بيك
حدث ما كانت تخشاه، فرفعت يدها بسرعة، وسرت الرعشة المشوبة بالسخونة؛ تشق طريقها نحو قلبها الضعيف، فأحست بالمزيد من الضعف.
لم تشأ أن تعيد الكرة فيزداد حزنها، بل إنها سعت لتكذيب الأمر، كأن هذه اليد -التي ارتعشت كَيدِ عجوز- لم تكن يدها الأربعينية، لكنها لم تستطع المقاومة، بدا أن هناك ما يجذب يدها كمغنطيس قوي نحوه جبهته الصغيرة، ودون أن تحس أعادت الكرة مجددًا، وضعت يدها ببطءٍ على جبهته فانفطر قلبها من جديد، ومثل المرة السّابقة خرقت الرعشة الساخنة قلبها.
تذكرت كلام جارتها العجوز: ستدهمه الحمى أوّلًا، ثّم سيموت.
رفعت بصرها نحو سقف الغرفة؛ الذي اقتلعته الرياح قبل أيام، ورأت السماء صافية، النجوم تلمع ببريق زائد، وهناك سُحب تتوزع في الأرجاء، لكنها شعرت بيأس شديدٍ، وراحت تحدث روحها؛ التي أبت الفكاك عن جسدها المتعب، لماذا لست أنا، أوّلًا تكفي كل هذه السنوات المتعبة التي أثقلت كاهلي، لماذا كلهم ولست أنا، لماذا يدهم هذا الموت المرُّ كلَّ من حولها ويستثنيها، نظرت مجددًا إلى السقف، كم هو ضعيف، لو أن عبدَ الجبار، زوجَها، ما زال حيًّا لا شك كان سيصلحه، لكن الآن لا أحد سيصلحه، ولا أحد سيدفع المال للذَّهاب إلى المستشفى الذي يبعد سبعة كيلومترات عن هذا الحي البائس.
تذكرته مجددًا، عبد الجبار، ربما عليها الاعتراف من حين إلى آخر، لتريح ضميرها المتعب قليلًا، لذلك لا ضير من قولها، لقد كانت حمقاء، لقد فرطت فيه بسهولة، لو أنها بذلت المزيد من الجهد وحصلت على المال، لما مات بتلك السهولة، قال الطبيب: إنه يحتاج إلى جراحة في القلب، لكن لو اجتهدت أكثر كم الوقت يكفي لتجمع المال؟
تراودها الآن الكثير من الأفكار عن عبد الجبار، ماذا لو كان قلبه صبورًا قليلًا، ذلك القلب الذي يتسع للجميع، يضمهم بحنان وله قدرة لا متناهية على المسامحة، ربما لتغير الوضع الآن، وربما استطاع أن يأتي بالطبيب، لكن أي طبيب سيرضى أن يدخل إلى هذا البيت الهزيل، إنه بلا سقف حتى.
لن تنسى ابتسامته الطيبة، وشعرت بالندم مجددًا فلم تكن قد أخبرته بجمال ابتسامته من قبل.
تضع يدها من جديد على جبهة الطفل الصغيرة، تتوهم بعضَ التّوهم أن الحرارة قد انخفضت، لكنها عندما تنظر إلى وجهه الشاحب توقن أن لا شيء قد جدّ، وتتذكر كلام الجارة من جديد: ابن قريبتي ماتَ بذات الطريقة.
لماذا تصر هذه الجارة على أن الصبي سيموت، وأن علته لا فكاك منها، ما هذا التشاؤم المقيت، وتعود الدموع المرة بالانهمار من جديد، وهذه المرة تحاول أن تكفف دموعها براحتيها، سمعت طرقًا بالباب، الطفل الصغير الذي يرتدي ملابس بالية يمد إليها كيساً ويقول: أمي تخبرك أن تبخريه بهذه الأعشاب.
أحست أن هذه الأعشاب ستعيد طفلها إلى حياته الطبيعية، أمُّ سعيد لا تخطئ الوصفات، إنها أفضل مَن يعالج بالأعشاب في هذا الحي، أخذت قبضة بيدها ووضعتها داخل إناء ثم هرستها بيدها، أعدت المبخر ووضعت عليه القليل من الفحم، ونثرت عليه العشب الجافّ؛ فتصاعد دُخَانُه خارقاً السّقفَ المفتوح، حركت المبخر في حركة دائرية حول رأس الطفل ورأته يتململ تحت أبخرة الدُّخَان فأحست بالسعادة، أخيرًا سيفيق ولدي الحبيب، لكنه بدأ يسعل بعنف، ذلك السعال أفقدها صوابها؛ فرمت المبخر أرضاً، وأسرعت في إطفائه، كأن شيئًا لم يكن، فعادت من جديد إلى حزنها الأوَّل، وعادت سحب الكآبة تطوف فوق رأسها من جديد وقالت: لا أملَ، إنَّ أمَّ سعيد دجالة فقط.
السخونة تتصاعد وقلبها يدق بقوة، ملأها الخوف حد الاختناق به، فصارت أنفاسها ساخنة ذات صوت شاحب، وبدأ اليأس يغازل ذلك الأمل الصغير الذي يلوح برقه بين الفينة والأخرى عندما يحرك الصغير ذراعه أو رأسه.
لا تعرف ماذا أصابه، فقبلَ يومين كان بصحة جيّدة، يجري برُفقة صبية الحي كغزال شارد، يتسلق بيوت الطين ثم يقفز من على سقوفها، يسبح في ماء المطر برشاقة كأسماك النيل.
تذكرت فجأة أن بطن صغيرها لم تتذوق الطعام منذ البارحةِ، أحست بالرعب، كيف لم تفطن لأمر كهذا، كيف لها أن تنشغل بالألم وتنسى بطن صغيرها الفارغ، نهضت مسرعة تبحث عن طعام بين المواعين، لم يكن هناك أكل، كأنّ هذه الغرفة لم يدخلها طعام من قبل، وتذكرت أنها لم تخرج لجلب الطعام منذ يومين، منذ أن عاد طفلها وهو يترنح، حين جاءت جارتها لتخبرها أخبار الشؤم، وتذكرت قولها وهي تودعها آخر النهار: في نهاية الأمر سيموت كما فعل ابن سعدية.
في السابق كانت تخرج عند مغيب الشمس، تطوي الطرقات خلفها كأنها مهاجرة، تخترق الأسواق مبكرًا مثل أشعة الشمس، تبحث عن الفتات الذي يسقطه المارة، وبقايا الطعام التي يلقيها المتسوقون في مكبات النُّفاية، ولا تنسى المرور بسوق الخضراوات، لتلقط بعض حبات الطماطم التي تتدحرج فالتة من بين يدي الخضري، ترفعها بسرعة ثم تمسحها من الطين، وتلوذ بالفِرار.
وتذكرت أنها خلال اليومين الماضيين لم تتذوق سوى طعم الماء، عندما تتحرك تحس بأنها زير ممتلئ، لا شيء داخله سوى الماء، من فورها وضعت الخمار على رأسها، خرجت تطرق أبواب جاراتها اللئيمات، لم يكن لأحداهن أن تفرط في قطعة طعام، فلا أحد يعرف ماذا يحمل له الغد، الأفضل عندهم أن يموت أطفال الآخرين دون أن يموتوا هم.
في نهاية المطاف عادت وهي تحمل قطعة خبز صغيرة، لا تكفي أن تسكت بطن رضيع عن النواح، وضعتها في ماعون صغير ثم صبت فيها الماء، عجنتها جيّدًا ثم صبتها داخل فمه، لم يكن يستسيغ شيئًا، لكنه ابتلعها على كل حال.
وضعت يدها مجددًا على جبهته، الحرارة لا تزال مرتفعة، وهناك طرق خفيف بالباب لم يصمت منذ مدة، نهضت متثاقلة لتفتح الباب، انه ابن أم سعيد مجددًا، يحمل في يده كيسًا صغيرًا، مدّه وقال: تقول لك أمي: إن هذا آخر ما لديها، وليكن الله في عونكم.
أيقنت أن أدوية أم سعيد لا تفعل شيئًا، لكنها لا بدَّ أن تتعلق بكل قشة أمل، وستفعل كل شيء لا منطقي ليعيش ولدها الصغير.
أفرغت محتوى الكيس في إناء صغير، صبت عليه الماء ثم صبته داخل فمه، شربه بسرعة لكنه سرعان ما استفرغه، وكان عجين الخبز الذي شربه قليلًا يخرج أيضًا، لم يكن قد هضمه بعد، فصبت لعناتها المتلاحقة على أم سعيد، وتمنت لو أنها اكتفت فقط بإطعامه عجين الخبز فقط.
بدأ الطفل يرفس بقدمه، أنفاسه تشهق بشدة، كأن الهواء قد انعدم داخل الغرفة، هذه المرة أحست أن عليها أن تفعل ما هو أكثر من الانتظار، خرجت تجري في الشارع وقد نسيت خمارها، جعلت تصرخ: أنقذوا طفلي، سيموت طفلي، ثم سقطت على الأرض، ولم يكن بيد الجارات شيء سوى التجمع حولها، بدأن التنظير حول مرض طفلها، أكثرهن قلن: إنه مات، وأقلهن تشاؤماً قلن: إنه ربما يموت بحلول الغد.
جاء بعض الرجال وحملوها مجددًا إلى الكوخ، وضعوها على عجالة وانصرفوا، أفاقت قليلًا ونظرت إلى طفلها، كان لا يزال يرفس ويشهق، تأكدت تماماً أنه يلفظ الروح الآن، تمنت لو أنها تستطيع أن تحمل عنه كل هذا الشقاء، لقد جعلتها السنوات الماضية أكثر قوة وجلدًا، لكن الآن الامور لا تسير كما يجب، كل شيء في هذا العالم لا يسير كما نحب، إنه فقط يفعل ما يفعل كأنه حَجر نَرد لا تعلم أي وجه سيقع لك، وأحست أن الهواء في صدرها يختنق بها، فيخرج مهمومًا ومسرعًا نحو الخارج، كل عضو في جسدها يشتكي كطفل صغير، ودهمها صداع عنيف، كأن مطرقة كبيرة تطرق رأسها بقوة، نظرت إلى طفلها مجددًا، لم تكن تدري أنها ستكوم نظرتها الأخيرة إلى تلك الأعين الصغيرة الضاجة بالحياة.
ورأت ما لن تتمنى أم رؤيته حتى الممات، رأت انطفاء النور المتقد داخل عيني طفلها، انطفأ إلى الأبد، بلا أمل بصيص، ظلام، فقط، تجمعت السحب فوقهم فجأة ثم بدأت تذرف ماءها، واختفت النجوم من على صفحة السماء، يكسوها الخجل، عزاؤها الوحيد، أن عيني الطفل، لن تنهشا جسدها المتقد مجددًا، وأن روحه الطيبة، ترتقي أبواب السماء، هناك حيث لن يجوع مجددًا، لن يمرض ولن تغتاله أيدٍ آثمة، لن يأكل قوته رجل شبعان، بالطبع ستتكفل الأرض بابتلاع جسده الصغير.
نزلت الدموع غزيرة عابرة خديها الحزينين، مختلطة بماء المطر العالق بوجهها، وتأكد لها الآن أن فَلِذةَ كبدها قد مات، والذي أمامها الآن لا يعدو أن يكون قطعة لحم فقط، ساعتها أغمضت عينيه بيد مرتعشة، غطته بالملاءة … ثم أطلقت العويل.
…………..
*القصة الفائزة بجائزة محمد سعيد ناود 2019م.