نهى محمود
لن تحتاج لبضعة صفحات حتى تعرف أنك تقرأ “سيرة الوحدة”في رواية الطاهر شرقاوي الجديدة “عن الذي يربى حجرا في بيته”.
ليست تلك الوحدة المؤلمة ، الخانقة ، الساكتة … وإنما وحدة أخرى ، وعالم فريد ليس غريبا عن كتابة الطاهر .
الذي ربما وقف على قدم واحدة كثيرا في لعبة الحجلة التي يلعبها الكتّاب عندما ينجحوا في وثبة إتزان كبيرة .. كانت وثبته الماهرة في روايته السابقة ” فانيليا ” التي نجحت كثيرا ، واضطرته أن يقف على قدم واحدة سنوات حتى يضع قدمه أخيرا بنص جديد ، أكثر ثراء وجمالا وعذوبة .
أفكر الآن اني تجاوزت بالقول أن الوحدة هنا في النص حلوة وجذابة ، لأنه ليست هناك وحدة هكذا ، ولكن هي لعبة الفن ، هو القلم السحري الذي يمس الصحراء فيحولها لصحراء مكتوبة ، يجسد جمالها .. وينقل لنا نبض الذي يكتبها فتمتزج بدماءه وروحه ، وتسلب من وحشتها لتحمل شيئا من إنسانيته .
نحن هنا نقرأ عن قصة الرجل الوحيد ، الذي صادق الوحدة .. فمنحته الحكايات . الحجر الذي بلون الشيكولاته والذي يقول له ” بس.. أنت “
وكرسي الحديقة التي لا تصلح ان تكون حديقة لأن العشاق لا يزورونها ، وسريره ، ودولابه الضلفة الواحدة .. وكل البشر والوجوه التي قسمها بين ان تحمل اسم ” س” وفي هذه الحالة سيكون صديقا أو جارا او شخصا حياديت أو مصاصي الدماء وهم البشر الذين يعيشون على الثرثرة وتضييق الخناق على ضحاياهم حال قابلوهم صدفة في شارع به ظل في يوم حار ، او في فراغ بين رصيف وآخر .
وحبيبة تحمل اسم ” سيرين ” ، وأحلامه القليلة ، وحبات العرق التي يتابعها ، العالم الذي يصبح فجاة مشهدا طويلا ممتدا عبر رواية تحكي فقط عن الرجل الذي يربي حجرا ووحدته .
رواية تدخلنا في عتمتها الرقيقة كأنها ستائر تسدل لمنع ضوء النهار، في هذه العتمة المحببة يلعب الطاهر مع لغته وحكاياته ..
يحكي لنا عن الصمت كثيرا حتى نكاد نقع في غواية العدم والتلاشى . ويقول إن الكلمة تحتاج لتمارين تبدأ من الصراخ تحتاج لأن نطلق الحناجر بالصياح .. فيجعلنا نفكر كيف يحتاج الحكي والثرثرة لكل هذا التعقيد والترقب !
طاهر يمارس الكتابة بلا خوف ، في تدفق فرسان الحكايات .
يحكي عن إخوته ، عفاريت الوحدة كما أحب تسميتهم الذين يستعيرون كتبه ودواوين الشعر ، ويفضلون إخفاء الاقلام .. وجاءوا للبحث عنه عندما ترك بلده وجاء للقاهرة ليدرس. بعد عشر سنوات استطاعوا معرفة مكانه .
كيف تبدو كتابة تورطنا في الإشتباك بغير مرئي بنفس الهمة والحماس !
تأخذنا من يدنا للحد الفاصل بين الحلم والخرافة والحقيقية الرتيبة ولا ننشغل كثيرا بشئ غير المضي خلف ظلمات طاهر وطبقات الحكاية التي تشبه المتاهة .
الكتابة في هذه الرواية كانت تحرك أحجار روحي ، ولا تترك شيئا مكانا ، جعلتني أفكر في كل العادات التي نكتسبها من الآخرين وتختلط علينا بها عاداتنا مع عادات الأصدقاء والأحبة.
أتذكر الأحجار التي اجمعها أنا ايضا من الطرق مع قريبتي الصغيرة ، الاحجار التي تبدو لي دوما رسائل بشارات .. ومحبتي لمشروب القهوة ، وجلسة المقهى ودائرة الاصدقاء والكتب الحلوة ، وموسيقى ” talk to her “
والتشابه بين كل من يصادقون الأحجار ويحبون الصمت والكلام بنفس الدرجة .
رواية تجعلني أفكر في نقاط التشابه بين السيد لا أعرف، وبين السادة في البعد الرابع ، حيث يعيش كل منا في مرآه تخصه يمكنه ان يجرب فيها كل صباح الإبتسام والضحك والغناء ، قبل ان نكون مستعدين تماما لما سيحدث في الحياة كل يوم .