“زووم إن”.. الشعب يريد إطلاق الأرواح!

"زووم إن".. الشعب يريد إطلاق الأرواح!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

على عطا

حسين عبد الرحيم هو بطل هذه المتتالية، «زووم إن»، ومكانُها الأبرز هو مدينة بورسعيد، وزمنها المركزى هو السبعينيات حين بدأ وعى البطل، المولود فى 1967 يتشكل. وفى الثنايا يحضر جمال عبد الناصر، ذلك الحضور المرتبط بالصورة الذهنية المرسومة له فى أذهان المهمشين. وحضور حسين عبد الرحيم فى غالبية نصوص تلك المتتالية، هو حضور أدبى، بمعنى أنه هنا شخصية «روائية» لا مجرد كاتب هذا العمل الصادر حديثا عن المجلس الأعلى المصرى للثقافة. سلسلة «إبداعات التفرغ»، بغلاف للفنان هشام نوار. هو هنا الطفل الذى شارك فى جنازة رمزية حاشدة لجمال عبد الناصر، فى قرية جرى تهجيره إليها من مسقط رأسه، بورسعيد، مع أفراد أسرته، باستثناء الأب تاجر الفاكهة ذى الأصول الصعيدية الذى تقرر بقاؤه فى المدينة، ليواصل دوره فى المقاومة الشعبية.

يهدى حسين عبد الرحيم مجموعته القصصية، التى أفضل اعتبارها متتالية، إلى زوجته وابنتيه، وإلى «هؤلاء الذين قابلتُهم فى المشوار الطويل: لقطة قريبة للزمان والأمكنة». تضم المتتالية 21 نصا تربط بينها محاولة الكاتب لملمة ذاكرة مبعثرة، لرسم صورة واضحة نوعا، لما كان شاهدا عليه من أحداثٍ واكبت وأعقبت هجرة أسرته القسرية من مدينة بورسعيد عقب هزيمة 1967، وكذلك ما شهدته المدينة نفسها خلال العدوان الثلاثى فى 1956، وفى أعقاب الانفتاح الاقتصادى الذى شوَّهها روحا وجسدا.

فى القصة الأولى «عبده فلاش» تتحرك الذاكرة نحو العدوان الثلاثى، وهو حدث لم يعشه البطل، شخصيا، فقد سبق مولده بنحو عشر سنوات، ولكنه عاشه عبر «هؤلاء الذين قابلهم فى المشوار الطويل»، حسب ما ورد فى الإهداء، ومنهم ذلك الكهل الذى هو عبارة عن «جسدٍ تآكل لحمُه، يضع نظارة قديمة بعدسات سميكة. لا يبيع من الفاكهة سوى أغلاها: التفاح، أمريكانى ولبنانى، ويمسح على الحبَّات بخرقة مبتلة بزيت جوز الهند». يسأل حسين عبد الرحيم عن أحداث تلك الأيام، فيؤكد «عبده فلاش»، المولود فى 1930 فى حسم: «سأذكرها دوما، ولن يُخرجَ الأصوات من داخلى إلا رمادُ القبور». يواصل بطل المتتالية «النبش»، فيضعنا فى النص التالى مباشرة، وعنوانُه «يا حمام الروح»، فى مواجهة واحدٍ آخر من رفاق «المشوار الطويل»، بائع عصافير مذبوحة! يراه مصادفة فى ميدان رمسيس، فى القاهرة، فيدفعه إلى السفر إلى بورسعيد ليفتش فى بيت الأسرة القديم عن شريط كاسيت عليه أغانى مطرب السمسمية الأول حسن العشرى ومنها «يا حمام روح قوام لحبيبى». هنا مُهمش آخر «يرتدى حُلة بحرية زرقاء فى أبيض، ويضع نظارة (بيرسول فيميه)، يمارس تلك المهنة من 50 سنة، ولم يضطر إلى ترك بورسعيد بسبب الحرب، ولكن تحت وطأة الانفتاح المتوحش، بعدما وجهت إليه سلطتُه اتهاما مفرطا فى عبثيته: الاتجار فى الطيور النادرة»! وفى نص «يوم جمعة»، يرثى السارد مهمشا آخر، هو صديقه، حمادة فوزى، ابن الثلاثين، الذى مات وهو يحلم بأن يمتلك كاميرا فيديو، ليصور ابنته، التى تخطت شهرها الثلاثين من دون أن يتمكن من تصويرها!

فى نص «قفزة أخرى لطائر وحيد»، وهو الثالث فى ترتيب نصوص المتتالية، يصل السارد مبكرا إلى أن «الوعى عبء»، ويقول لنفسه: «أنت مثقلٌ بالأنين دوما» ص19، لكنه يواصل الحنين إلى «المدينة الساحلية»، وفتيات فى ذاكرة الفتى: زينب، رغداء، نهى، منى، وتمثال «فرديناند ديلسبس» المخلوع وقاعدته البازلتية المنقوبة، فى زمن التشويه المتعمد لمدينةٍ طالما تغنينا ببسالتها، فيجود التذكر بمشهد ولدٍ ينقذ ولدا آخر من الغرق. بينما «العاصمة الأم»، تواصل عبر النص التالى، وعنوانه «مشوار» تخبطها عبر فريقين فى السلطة السياسية المركزية، أحدهما يعلن أنه «لا تفكير فى خصخصة القناة»، قناة السويس، ويؤكد الآخر أن «الحتمية التاريخية تدفعنا دفعًا نحو الخصخصة» ص23. فى نص «مشوار»، تطالعنا أيضا صورة عكسية لمحتوى فيلم «زوجة رجل مهم»، لمحمد خان رغم النهاية المشتركة: انتحار الضابط، وفى نصوص تالية سيحضر شغف حسين عبد الرحيم بالسينما والذى تشكلت بداياته فى مدينة المنصورة، فى سنوات التهجير، فتتردد أغنية «راح اللى راح ماعدش فاضل كتير» لماجدة الرومى من فيلم «عودة الابن الضال» ليوسف شاهين فى أكثر من موضع، بما تحمله من دلالات توازى حال التأسى على ما آل إليه مسقط رأس السارد/البطل، والبلد عموما. وسيحضر كذلك عبد الناصر، صراحة أو تأويلا، كما فى نص «تيكنى كلر»، حيث يرى السارد فى ما يرى النائم «يدا طالما ربَّتت على أكتافٍ وصعدت وهبطت فى خطب فى الميادين». رأى وجه صاحب تلك اليد، رآه ودموعه تنساب على وجنتيه بغزارة، فلعله هو نفسه ذلك الزعيم الذى ما زال فقراء الوطن يحنون إلى أيامه التى عرفوا خلالها عدلا اجتماعيا بات بعيد المنال، بينما ناطحات السحاب تتعالى، بينما السارد، فى نص «فرح»، يسمع السارد أصواتا، تأتيه من قلب «حديقة الموتى»، أو مشرحة المستشفى الذى يعمل فيه فى وظيفة معاون إدارى. يُكلف المعاون الإدارى بالمعاونة فى رفع الجثث من وسط الثلج الأبيض لتكفينها وتسليمها إلى ذويها، وبينها جثة فتاة ماتت فى حادث عبثى، وفى الوقت ذاته يأتيه خبر مولد ابنته التى كان قرر أن يطلق عليها اسم «فرح»، ربما ليكسر إحساسه الشخصى بأن الفرح بات هو الآخر بعيد المنال. يحضر طيف الزعيم مجددا فى نص «.. وهذا البلد»، الذى يبدأ هكذا: «بورسعيد يا مجدى الغابر»، كما تحضر الأمكنة والشخوص التى تعمر بها الذاكرة، وتتداخل، ليتساوى البشر والحجر: «فاطمة بنت الحاج حسن، الحاج حسن عبد الرحيم، العربى مهران، شارع الحميدى، شارع نبيل منصور، الجميل، العرب، محمود الجبالى، مقهى الشكربال، مدرسة تنيس الابتدائية، مدرسة الفرما الإعدادية». المدينة الساحلية لا تغيب مطلقا بناسها ومعالمها التى تقاوم التشويه، بينما يجتر السارد شريطا سينمائيا مفتوحا على الماضى القريب والبعيد… «ثمة محطات كثيرة متناقضة فى سيرة حياتك أيها الجوزائى المتردد، فماذا ستكتب؟»، بعد «العوامة 70»، «ثرثرة فوق النيل»، «السمان والخريف»، وغيرها. شخصيا كنت أفضل أن تبدأ تلك المتتالية بنص «.. وهذا البلد»، بما أنه يغوص مباشرة فى قلب المكان المركزى لهذا العمل. كما أرى أنه كان من الأفضل ادخار نص «دخان» لمجموعة قصصية تالية، بما أنه يشتبك مع حدث ثورة 25 يناير، وفى مركزه صبى لم يسعفه القدر ليتوارى عن الأدخنة الزرقاء والسوداء الهلامية السابحة فى «ميدان التواريخ»، فيسقط صريعا، بينما السارد يعلن: «الشعب يريد إطلاق الأرواح»، وهو يتأمل فجرا «طاشت على أثره أحلامُ الفقراء معدومى الحيلة».

وبعد، يسرد حسين عبد الرحيم فى هذا العمل قصصا تقطر ألما وشجنا وحنينا ويأسا، بلغة يغلب عليها التشظى، ومشاعر تبلغ فى أحيان كثيرة حدَّ الهذيان وتقف على حافة الجنون، من فرط عبثية مآلات الأمكنة والشخوص، واختناق الحاضر وانسداد أفق المستقبل. «زووم إن» هى إذن مرثية أخرى لبورسعيد، الحاضرة دائما فى قصص وروايات حسين عبد الرحيم، والتى تقوم على كتابة لا تحفل بالحكى التقليدى، بقدر ما تصنع منطقها الشعرى الخاص جدا لدى سبر أغوار نفس ساردٍ غريب الأطوار، ومدهش وصادم فى الوقت نفسه.

مقالات من نفس القسم