عن اللُّطف وغبار الأرض

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

أنا مشَّاءة، المَشي صديقي.

أُصادِف أثناء المَشي مقاهٍ صغيرة أنيقة، تكون في زاوية من شارع أو داخل مَمَرّ، يُديرها شباب، أولاد وبنات، أحب هذه المقاهي بشَكلٍ خاص، تتكوَّن من بوفيه صغير لتجهيز المشروبات، وأكواب وفناجين أنيقة، إضاءة خافتة ملوَّنة، وعناقيد من حبَّات نور غير مبهرَج تؤكِّد حالة الخفوت اللطيف، طاولات صغيرة على الرصيف، وكراسي بسيطة مريحة، وصور بالأبيض والأسود لفنانين ومطربين من زمن قديم، مقاهٍ بها أُلفة ولطافة، ولها خصوصيتها رغم أنها على الرصيف، وأحب بشَكلٍ خاص تلك الجُمَل القصيرة، التي تُكتب في جدران هذا النوع من المقاهي، أو في لوحات صغيرة تُعلَّق وتُوَزَّع بعشوائية منظَّمة أو نظام عشوائي، جُمَل خفيفة الظِّلّ ولها معنى. 

رأيت جملة مُشترَكة بين كل هذه المقاه تقريبًا، ومَقاهٍ أخرى دخلْتُها في سفر لبلاد مختلفة، جملة عن “اللُّطف”، تطلب من كل شخص أن يكون لطيفًا مع غيره، تبدأ هكذا: “كُن لطيفًا..”، وبقيَّة الجملة تقول للشخص لماذا مطلوبٌ منه أن يكون لطيفًا، وتتنوَّع صيغة الطلب، أغلبها يحمل معني: “الجميع لديهم ألَمٌ ما، ولا ينقصهم أن تكون وقِحًا أو فَظًّا معهم”، وبعضها يحمل تهديدًا: كن لطيفًا، وإلّا…”، أحيانًا يتم الاكتفاء بالنقاط أو فراغ، وأحيانًا يُكتَب نوع التهديد. 

تُعجبني الجُمَل التي بها تهديد.

وهل يكون “اللُّطف” مع الآخرين لأنهم ربما لديهم ألمٌ ما، أم لأنه الطبيعي.. العادي؟

أيّ مُغفَّل أو ضعيف يمكنه أن يكون وقِحًا مع الآخرين، هذا لا يتطلَّب شجاعة ولا ذكاء ولا قوة من أيّ نوع، عقليَّة أو جسديَّة أو غيره، لكنَّ “اللُّطف” يحتاج شجاعة وذكاء وقوة، أنْ تكون لطيفًا بلا ليونة أو مبالغة أو تَصَنُّع، فقط ببساطة وتلقائية وفي حدود المعقول لنا ولغيرنا، أو على الأقل لا نتعامل بوقاحة، أو يمكنك، ومن الأفضل لك، أن تحتفظ لنفسك بوقاحتك المُغفَّلة، وإلّا...، فلا أحد يحتاجها، ولا أحد مضطرٌّ للتعامل معها أو القبول بها.

غبار الأرض:

كثير من البشر ربما يُعجبهم أن يكون في تكوينهم ذرّات من أشياء تَسْبَح في الفضاء، تُعجبهم الفكرة، فقط لأن النجوم مَثَلًا يُفتَرَض برأيهم أنها في مكان عالٍ، وتلمع وتَبْرُق، رغم أنها بطريقة ما ليست في مكان عالٍ، والكثير منها ميِّت، تُعجِبنا الفكرة لأنها تجعلنا ننتمي للنجوم والسماء، لا الأرضَ وغبارها، ونظنُّ أن هذا أرقَى لنا وأجمل.

لكن.. عنِّي؟ أنا من غبار الأرض.

من غُبار الأرض أنا، غبارها النقي بلا شائبة، ببساطته وشعبيَّتِه، خِفَّته ورشاقته وهشاشته وقوته، وخُلُوِّه من التملُّق، لا يَتَملَّق أحدًا ولا أحد يَتَملَّقه، أحبه بقُدْرَتِه على التجَمُّع معًا، وقُدْرَتِه على التبعثر، أنا من غبار الأرض، وقُدْرتِه أن يكون ملموسًا ومحسوسًا، وقُدْرَتِه على السكون، والانفلات، بقُدْرَتِه على الوصول إلى حيث لا تستطيع النجوم ولا تعرف.

أنا منه، بصَبْره واندفاعه وحكمته ورعونته وعفويَّتِه وفَوْضَوِّيته، وتَوَحُّد كل ذرة منه مع ذاتها وخيالها، وقدرة كل ذرة منه على مشاركة زميلاتها، أنا من غبار الأرض، بقُدْرَتِه على أن يُشْبِه كل شيء، وألّا يُشْبِه أيّ شيء، وألّا يستطيع أيّ شيء أن يُشْبهه.

أشعر أني لو نَزَلْتُ بداخلي عميقًا، أَعْبُرُ دمي ومائي ولحمي وعظامي، لَمّا أصل إلى أبْعَد نقطة بداخلي، أقرب نقطة بداخلي، سأجد أرضًا.

يتساءل كثيرون أو يفكرون عَمّا يمكن أن يجدوه لو نزلوا إلى آخِر نقطة بداخلهم، البعض يتوقَّع أن يجد ماءً، البعض الآخر يتمنَّى كنزًا، بعضنا يتمنَّى غابة، أو سماء أو بحرًا أو نهرًا أو عواصف أو صحراء أو طائرًا أو وَحْشًا أو نورًا، أو أشياء أخرى، البعض يتوقَّع أو يتمنَّى أن يظلَّ ينزل إلى ما لا نهاية.

أنا أعرف أني سأجد أرضًا، أَعْبُر الماء والهواء والعواصف والوحش والغابة والسماء والنور والكنز والبحر والنهر والطير والصحراء والنور والأشياء الأخرى والما لا نهاية، وأصل إلى أرض.

أُحب مَنْظَر ذرات الغُبار السابحة في حزمة من نور الشمس.

أحب أن أكون من ذرات الغُبار، لا حِزمة النور.

عنّي؟ أنا من غبار الأرض.

……….

*من مسودة: حدث في شارعي المُفضَّل

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

نهاية