أحمد رحيمة
أن أعيش في منطقة شعبية علَّمني أن أحتقر الادِّعاء ومن يحبونه، وأن أكشفهم من نظرة واحدة، الذين يغصبون على ملامحهم وجوهًا زائفة ليخفوا حقائقهم. لا ينطلي عليّ أنا. من الخارج يبدون للمغفّل وكأنهم يعيشون في النعيم، بينما أعرف كيف يتخبّطون دون توقف. لا عيب في المعاناة. العيب في النفاق. يثير بداخلي الرغبة في التقيؤ. علَّمتُ نفسي شجاعة الوقوف أمام الحقيقة بقلبٍ لا يهاب الخوف ولا يتراجع حين يجيء. علَّمتُ نفسي حب الصدق. والكتابة هي الصدق. وحيث نشأتُ لا أحد يمثل. الساخط يصرخ والغاضب يسب، والسعيد يضحك بأعلى صوته. من يشعر بالإهانة يردها فورًا، ولا أحد يبتسم إلا حين يريد. الادِّعاء الوحيد الذي يمكن أن يحدث هو أن يضع أحد الذين يسحقهم الواقع قناعًا من السخرية يعينه على التحمل. مع ذلك فإن الجميع يعرف ما يفعله، لهذا لا يسمى ادعاءً. وهو يملك دائمًا القدرة على نزع القناع وقتما شاء لينفجر حين يكون ذلك أهون له. أن أكبر وسط كل ذلك كان سببًا في أن أكون كاتبًا.
.
.
.
أسحب الكتابة كالحبل. أمسك طرفًا وأشدّ. وأؤمن أن ما يسميه البعض “الوحي” هو أسطورة ساذجة. أنا الذي أفعل كل شيء بنفسي، ثم تساعدني القصة بعد ذلك. الكتابة غير القصصية أيضا تسير بتلك الطريقة. البداية دائمًا من عندي، وعادةً ما تكون مُرهِقة. كأي عمل في الحياة. تلك الهالة الطفولية التي يضفيها البعض على العمل الفني كأنه طاقة روحية لا تفسير لها تتنزَّل على الفنان الذي رُزق الموهبة، ما ذلك إلا هراء فارغ. ممارسة الكتابة كممارسة النجارة. عمل له خطوات، يتطلب الالتزام والتعب والسعادة والضيق والفرح والتدرّب والتأفف قرفًا والانتشاء. كله في نفس الوقت. للإبداع خصائص تختلف عن صناعة الكراسي بالطبع ولكن ما أقصده واضح. في الإبداع لا وجود للتكرار. مع ذلك فإن العملية نفسها متكررة. الجلوس مدة معينة منتظمة والجهد المبذول.
.
.
.
الكتابة ليست التعبير عن نفسي فقط، الكتابة انفجارٌ أحْدِثُه بنفسي خارج نفسي، تعبير عن العالم وانتقام ورقص واستكشاف ومتعة وتفاجؤ. كما أن أعمالي ليست أبنائي. أتعرف على شخصيات قصصي وأتفاجيء بأفعالهم. يلهمونني ويخيفونني. هم أشخاص كاملون. لا يحتاجون مني أن أخبرهم بما عليهم فعله. هم يفعلون وأنا أتبعهم. أحترم اختياراتهم وأسير معهم وأتعلم منهم. أنا المدين لهم.
.
.
.
الكتابة إكسير. بدونها أسقط في هاوية سحيقة. كل الكتابة كذلك، ولكن الإكسير يتركّز في كتابة القصص. تلفُّني بدفءٍ غامض. الوجود بين شخصيات كانت غير موجودة، ثم يصير وجودها أكثر واقعيّةً من الواقع. استحقّ القلم أن يُقسِم الله به. الأمر كخلق الملاذ. كرسم دائرة في السماء والتحليق نحوها. أدخلها فيَحضُر الونس ويُبتعث المعنى. لا أصير وحدي. الأمر أكبر من أن يكون مهنة أو هواية أو فعلًا كبقية الأفعال البشرية. كما أنه لا يحدث فقط حين يعطف الإلهام عليّ، يحدث كذلك حين لا أريد ثم أرغم نفسي وأبدأ السطر فتتولّد الرغبة ويُستجلب السحر وتُصنع العوالم.
.
.
.
الكتابة ترحال. التنقل بين الأمكنة والأزقة في العوالم الأخرى، لا فرق بينه وبين التنقل من بلدة لأخرى في العالم الحقيقي (أحيانًا تكون العوالم الأخرى أكثر حقيقيةً من العالم الحقيقي). وكما أن الترحال لا يحدث وأنا جالسٌ مكاني، فكذلك الكتابة والخيال. يحدثان بعد أن أحرِّك عقلي. وتحريك العقل أكثر نشوةً من تحريك القدمين. قد يكون بطيئًا أحيانًا، ولكن مع التدريب يصير بسرعة الطيران. لهذا أشبه الكتابة بالتحليق طوال الوقت. الدَّفع الأولي متعبٌ دائمًا. الرفرفة الأولى للأجنحة، ثم بعدها يصطدم الهواء بجسدي وأرتجف بالنشوة.
.
.
.
الكتابة هلوسة مُسْكِرَة في حلمٍ مُشَوَّش. فقاعات ناعمةٍ شفافة ترتقي إلى الأعلى ببطءٍ هاديء، تلمس السماء فتتحول بصمتٍ إلى سديمٍ ملوَّن. أحيانًا تكون الكتابة بتلك العذوبة. وأحيانًا تكون نيازك ناريّة ساقطة وحممًا تترامى من أفواه براكين ثائرة.
1 يونيو 2025
…………………………..
*لوحة الغلاف مولدة بالذكاء الاصطناعي