أثينا

خالد النجار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد النجار

 أثينا كما تقول ريتا عن روما مقترنة برائحة المازوت التي تلقاك في مدن المتوسّط… مرتبطة برائحة ورود قبرص التي تهبّ عليك في موجة لا مرئيّة وأنت تعبر أحد الشّوارع… كان لقائي الأوّل معها ميلودراميّا… كنت قادما من تونس أحمل رسالة توصية من صديقي الشاعر لوران غسبار إلى صديقه الشاعر يانيس ريتسوس، وقلت في نفسي ها أنا ذاهب لأكتشف مجهولين: مدينة، وشاعرا… أليست المدن مثل القصائد تنطوي على مجهول رائع… قبلها كانت اليونان مرتبطة في ذهني بشاعريّة العالم الكلاسيكي وأساطيره: مرتبطة بأكتيون الإله الذي كان يطارد في أحد الأيام صيده في الجبال فمسخته أرتميس وعلا، وتركت كلابه الخمسين تفترسه. تلك الكلاب التي صارت فيما بعد ترمز إلى الأيّام الخمسين التي يتوقف خلالها النبات على النّموّ أثناء العام… وببوزايدون إله البحار والمياه عامّة والسّواحل، بوزايدون الذي يقيم في أعماق المحيط داخل قصر ذهبيّ… ويتحكّم في الأمواج والعواصف. وهو مثير الزّلازل والبراكين ومفجّر المياه من الصّخور ومنشئ الجزر الجديدة وهو أيضا الآتي بالمياه التي تفجر الربيع… وبتريون الإله الطيّب الذي اشتهر بالنّفخ في القوقعة الهائلة وتهدئة الأمواج العاتية، وحسر مياه الطوفان. إنّه الوسيط بين الملاحين وبين أبيه بوزايدون… أثينا مرتبطة بأريثوزه إلهة الينابيع… آه أريثوزة!! أريثوزا التي تجلى لي شبحها ذات ظهيرة في خليج قابس، تحت الشمس الحارقة، ووسط المستنقعات الملحيّة التي يعبرها قطار الجنوب. في تلك اللحظة التي بدا وكأنها مأخوذة من الأبد وأنت تقرأ قصائد أوجينو مونتالي الأولى، هكذا اعترضتك. برزت صورتها الشعرية في وعيك تلك اللحظة التي اختلط عليك فيها الواقع بالنصّ.

أثينا مرتبطة بثاناتوس إله الموت الذي ولدته آلهة اللّيل والذي يجئ دائما مع إيروس؛ ثناتوس قرين إيروس، أو وجهه الآخر: هو الموت المقترن دائما بالحبّ، أو هو الحبّ الذي هو جوهر الحياة الذي يمضي إلى الموت في اندفاعه الحيويّ… إنهما الحياة والموت عمق الوجود الحيادي حيث تمتزج الظلمة بالنور، الليل والنهار… حيث يتحد الجوهر وينتفي التناقض وكأنّ فرويد اذ يربط بين غريزتي الجنس والموت إنّما يعيد وبشكل علمي بنية الأسطورة التي تقرن بينهما، ويعيد دلالتها ورمزيّتها العميقة، وأن غريزتا الحياة والموت ليستا سوى شيء واحد، وجهان لعملة واحدة.

أثينا مرتبطة بملحمة هوميروس، المغنّي الأعمى الذي قضّى حياته في القوارب وبمدوّنات هزيود، وبشذرات هيرقليطس الغامض أو المُظلم… هيرقليطس الذي قضى وترك من بعده نهره السائل عبر الزمن… أثينا مقترنة بباخوس الإله الثمل، وباتباعه أصحاب الصولجان، أثينا مرتبطة بديونيزوس ذاك الإله الذي تحدّر من وهاد آسيا الصغرى، وجاء بلاد الاغريق ليدمر التناسق والنظام، ومملكة العقل التي تقوم عليها الشرعة الأبولونيّة؛ ديونيزوس الذي اختفى لزمن ثم ظهر على يدي الفيلسوف الألماني نيتشة في دعوته للإقبال على الحياة، على العالم، والعيش بامتلاء، والارتشاف من كأس الحياة حتى الثمالة…. معنى أن يحبّ الإنسان قدره ويقبل عليه بعنفوان وشجاعة.

أثينا مرتبطة بجزر بحر إيجة العارية، بحر إيجة الذي أضاع أوديسيوس، ذاك الضياع الذي تحوّل إلى رمز أساسي في تجربة الإنسان الوجوديّة، إنها محنة الضياع الذي لابدّ من عبوره، والذي لولاه لن يجد الإنسان الطّريق، طريقه، هو طقس عبور وتحوّل. في كلّ جيل يضيع الشباب في تجربة ومكابدة تيه العالم إلى أن يجدوا، وبعد مكابدة التحول طريقهم الداخلية ويمسكوا بخيط وجودهم الذي يقودهم إلى ذواتهم العميقة. وهناك من يعيش حياة بأكملها ثم يقضى دون أن يجد هذه الطريق، طريق إيثاكا. أثينا مرتبطة بسيبيل نبيّة كومي التي تقرأ الأقدار على ورق الشجر…ولو أنّها بعيدة عن بلاد الإغريق.

أثينا مرتبطة بالأورفيّة وبالمذاهب السريّة الغامضة بمناقب الأبطال، بأفلاطون الذي كان يلذّ له طوال اللّيل أن يظلّ ساهرا فقط ليرعى نجمة… أثينا مرتبطة بمدوّنات هيرودوت  حيث تمضي نحلة التاريخ الزّرقاء كما يقول بيرس. أثينا مرتبطة بأوابد إيبيكتيكوس، بمغزل بينيلوبّي المتماهية مع الزّمن الدّائريّ حيث يحبك وينحلّ العالم باستمرار في حركة بناء وهدم أبديّتين… أثينا مرتبطة بالسيكلاد… لا أحد قرأ واستطاع ان يفلت من أسر العالم الكلاسيكي الإغريقي؛ أن يفلت من أسر الميثوس اللاّ عقل والذي حدّد مصير اللوغوس، أي اللغه والعقل وحدّد بالتّالي المصير الروحي للغرب والملمح الأساسي الذي سيتخذه فيما بعد الإنسان الغربي الذي تماهى ومنذ عصر النّهضة في القرنين الرابع والخامس عشر مع الأنتروبوس الاغريقي مثاله الأعلى: الانثروبوس أو الإنسان الكامل في الوعي اليوناني القديم…

 أجل لقد اتّخذ إنسان عصر النّهضة أو الحركة البشريّة الإغريق مثالا… وأدخل الفلسفة اليونانيّة في ديناميكيّة جديدة فيما تلا من القرون في أوروبّا… إلى يومنا الحاضر، ديناميكيّة كان لقرّاء أرسطو من فلاسفة الاسلام في الأندلس شرف تدشينها وإثرائها… وهو الضوء الإغريقي الذي نلقاه في أعمال الوزير ابن فاتك والشهرزوري إيرازموس ومونتانيي ورجال النهضة الآخرين الذين حولوا نظرهم من اللاتينية إلى اللغة اليونانية القديمة الممهورة بطابع العالم الوثني.

أمّا هذه اليونان الحديثة المسيحيّة ففيها شيء من الجهامة. جهامة الكنيسة الأرثوذكسيّة… هكذا حدّثني ذاك الضابط الانكليزي المتقاعد الذي لقيته ذات شتاء مشرق على شاطئ ليماسول أتذكر كان الوقت بعد الظهيرة وكانت هناك ريح في أشجار الكاليتوس التي تهتز من خلفنا وضوء برتقالي خفيف يغمر فضاء الشاطئ المقفر ويلتمع على صفحة البحر الزرقاء الداكنة ضوء يشي باقتراب المساء والرجل يقف مشدودا إلى الأعلى منفرج الساقين وقدماه مغروستين في رمال الشاطئ وكان يتكلم وكأنه يرثي اليونان القديمة:

اليونان اليوم لا علاقة لها بالماضي الاغريقي البطولي كما نعرفه. يونان اليوم مسيحية انزوت حضارتهم القديمة وإن استمرت بعض عناصرها في ممارساتهم الشعبية الفلكلورية مثل الرقص الذي تشاهده اليوم من قفز في الهواء ودق الأرض بالأقدام وفتح الذراعين على اتساعهما وميلان الوجه بشكل جانبي هو إعادة رمزية وتقليد طيران العقاب عندما يفرد جناحيه ويصعد في الهواء.

 أجل لقد نأت اليوناني عن ماضيها البطولي، الملحمي، الوثني… ابتعدت عن ينابيعها الروحية. وعادت التماثيل والمعابد حجرا. ماتت الآلهة… وكل ذاك الماضي البطولي تحوّل إلى ذكرى مريرة تلقاك في أشعار قسطنطين كفافيس في قصائد يانيس ريتسوس وجورج سيفريس. ذكرى وليس رثاء كما هو لدينا في بكائنا وتحسرنا الدائم على الماضي أو تنكر للماضي بفعل التماهي مع الرجل الأبيض الكولونيا لي بل الماضي لديهم استمرار وقوة دفع نحو المستقبل… لن تجد النخبة اليونانية اليوم من يسفه تاريخه وحضارته ولغته كما يفعل كثير من فرانكوفونيي تونس والجزائر والمغرب

قال لي يانيس ريتسوس وهو يتطلع إلى جبل البرناسوس الذي كان يتراءى أمامنا أزرق في الأقاصي عبر نافذة الصالون هناك في الأفق البعيد غاطسا بكليته في الضباب الأزرق الضارب إلى بياض

كان ريتسوس وكأنما يستمد منه الوحي وهو يشرح لي طبيعة علاقتهم بالماضي:

 الماضي تجربة عظيمة مضت ولا سبيل إلى تكرارها، ولكن هذا الماضي محرض على النهوض؛ وقد كتبت قصيدة أقول من خلالها موقفي من الماضي الإغريقي وهي بعنوان مسرح قديم؛ وتتحدّث القصيدة عن مراهق يجد نفسه في قلب مسرح إغريقي أثري، مراهق يعيش اليوم ولكنّه جميل جسده شبيه بأجساد الأسلاف التي نراها في التماثيل. وهذا المراهق يطلق صرخة عالية ليس حبّا بالصراخ، ربّما أحسّ بلذّة وهو يصرخ، ولكن وببساطة شديدة حتّى يسمع رجع صوته، ورددت الجبال في الجوار صدى الصّرخة: هاه، هاه!!! إنّه الصّدى الإغريقي الذي لا يكرر ولا يقلد وإنّما يستمرّ، معنى ذلك أن الشّعراء اليونانيين اليوم يواصلون تلك الصّرخة القديمة.

أما كفافيس فيكاد يعيش بكليته في الماضي الاغريقي… كفافيس الذي أتمثله في الإسكندريّة خريف 1908 جالسا في اللّيل في شقته بشارع ليبسوس في صالونه الخشبي الشرقيّ المنزّل بالصدف متأملا أيام حياته وتلك الشعلة التي تنوس في مصباحه النّفطيّ في دكنة الغرفة الفارغة اتمثله ويحاور أشباح أبطاله الميّتين ويسترجع شعريا قيم عالم الماضي الاغريقي.

 أجل فكثير مما يحيط بنا هو من صنع الناس الذين قضوا… أي أولئك الذين اكتمل وجودهم في الموت وتركوا حقيقتهم في الأشياء التي صنعوها بأيديهم ذات يوم وتركوا فيها كهرباء أناملهم تلك الطاقة اللامرئية… هكذا نعيش نحن ونتحرّك وسط أشياء الموتى. نعيش مع حقيقتهم الأبديّة التي تركوها في صمت الأشياء التي صنعوها وهم بذلك كأنّما يرسلون موجات لا مرئيّة ترفّ فوق الأشياء البسيطة واليومية وتضفي عليها سحرا وغموضا، ونوعا من الجمال النبيل نلقاه في دكاكين العاديات القديمة عندما نرى ونلمس ما رأوا وما لمسوا.

لكن أثينا، وبعد زيارتي لها صارت مقترنة في ذهني برائحة المازوت كما تقول ريتا، ببطاقات البريد، بأعياد الفصح اليوناني وأيقوناته المذهّبة… مقترنة بالآلهة الضّائعة في سفح الأكروبوليس بين أشجار الزّان والحجارة المتناثرة. أثينا مقترنة بالقهوة التركيّة، بالمترو الذي ينطلق من محطّة أُومونيا الدّاكنة والقذرة، بتلك البيوت الشّعبيّة الصغيرة المتراصّة على سفح الأكروبوليس،بأصص زهورها، وبأضوائها الملوّنة، بتلك القبور الإسلامية المتناثرة بين حجارة الأكربوليس وأزهاره. القبور العثمانيّة التي تجاور آلهة اليونان القديمة شاهدة على ذاك الإسلام العثماني، الإسلام الأوربّي الذي استمر أربعة قرون في البلقان…

  أيّ مفارقة مثيرة بين قبور هؤلاء الفقهاء المسلمين المسجّين هنا بعمائمهم الحجريّة وتماثيل الآلهة اليونانية حارسة المكان؟!! لقاء بين عالم الآلهة المتعددة وعالم التوحيد الإسلامي.

  أثينا مرتبطة بتلك المعزة التي تقف في ركن الشارع المؤدّي إلى الحدائق السريّة وسط أعشاب الشوكران بجانب صاحب صندوق الموسيقى وحماره الصّغير الذي يمر كلّ صباح… أثينا مرتبطة بالرّهبان الأرثوذكس بسحنتهم البيضاء الشاحبة وبثيابهم الكهنوتيّة السّوداء وبأحذيتهم السوداء اللامعة الرّهبان ذوو الشعور الطّويلة المظفورة والبارزة من خلف، ومن تحت قلنسوّاتهم وهم يمرون حذوي بذاك الخطو الثابت. أثينا مرتبطة بالباصات الكهربائيّة الصّفراء… بتلك الحديقة الدّاكنة الشبيهة بحدائق البرتغال حيث كان يمضي بيسوّا كشبح في معطفه الأسود… لا لم يذهب بيسوّا إلى أثينا هذا من بنات خيالي… أثينا مرتبطة بجورج سيفيريس، بيانيس ريتسوس بأوديسيوس إليتس، بمطبوعات كيذروس وبشارع كوراكا، بشارع أوذوس بيتا، بشارع استاذيو، وبساحة البرلمان وبفندق فيفوس حيث وبفعل أحد أسرار اللقاء التي تتحكّم في حياتي؛ وجدت رسالة ضائعة كانت قد تركتها جاكلين داود لزوجها الشاعر لوران غسبار منذ أشهر وقد كانت حينئذ في طريقها إلى بيتها في جزيرة كورفو هكذا حدّثني عامل الفندق الأثيني السّكندري بلهجة مصري ابن بلد، لا لكنة فيها ولا شائبة قال وهو يسلّمني الرّسالة عندما علم أنّي قادم من تونس وأنّ لوران هو الذي دلّني على هذا الفندق…

فندق فيفوس بشارع أوذوس بيتا الضيق ذو الظلال والنباتات المعترشة على جدرانه؛ فندق فيفوس معمار يعود إلى الثلاثينيّات…غرفة آر ديكو أتذكر دكنتها الخفيفة قاعة الحمّام مثلثة الشكل، أرضيتها موزاييك ورديّ يتشكل من بلاطة واحدة، الحوض حديدي أبيض والمغسل من البُورسلان الأبيض الأثاث قديم يعود للخمسينات، يتداخل في الذّاكرة مع أثاث فندق الدار الذهبية وهوتيل كلاريدج بتونس أيّام عزّه، وفندق مينرفا في القاهرة وحمّام فندق فيلادلفيا في عمّان التي وصلتها ذات ظهيرة حارّة صفراء، ودخلت رأسا إلى الحمّام لأقف مشدوها أمام المغسلة الانكليزية تحت المرآة الصّدئة، والمواسير النحاسية الملتوية، والصنبور النحاسي بعنقه المتطاول كعنق البجع وبمفتاحه الكبير… قلت في سرّي من هنا ربّما مرّ لورنس العرب رغم أن قاعة الاستقبال بدت لي وكأنّها خيمة بالبسط الوبرية المفروشة وبديكورها البدوي لولا المدرج الذي صعدته لأصل إليها، ولولا الجدران المحيطة والتلفزيون وسط القاعة لخلت نفسي في خيمة في الصحراء… كان هناك نفر من السعوديين أو الخليجيين بجلابيبهم البيضاء يند عنهم من حين لآخر صراخ وهم يشاهدون أحد الأفلام المصريّة بالأبيض والأسود

ها أنا في فندق فيفوس بحي البلاكا قريبا من الأكروبوليس… بلاكا هو الحيّ القريب إلى نفسي. وصلت أوّل الأمر إلى ساحة أومونيا المكتظّة بكل الأخلاط من مقيمين ومسافرين. أومونيا القذرة بمحطة قطاراتها التي تحت الأرض. في ذلك الضّحى الدّيسمبري المشمس، كانت جموع الباعة والتجار والأفاقين ونساء اللّيل تموج من حولي؛ شعرت برهبة وأنا أدخلها، منحتني إحساسا بعدم الاطمئنان، ها أنا في الشرق الأوسط، في مدينة تتوزّع ملامحها ما بين تركيا وبعض مدن شرق المتوسط العربية هناك أيضا تلك الفنادق المشبوهة التي لها سحنة البيوت السريّة والتي تجدها في كلّ العواصم قريبا من المحطات الكبرى، سان لازار في باريس وبنسلفانيا ستيشن في نيويورك، وبوارتا دل صول في مدريد؛ الفنادق نفسها التي تتلقف السائح قبل أن يدخل المدينة وتقدّم له بضائعها الجنسيّة لحظة تكون التخييلات الفونتازميّة على أشدّها. لا، أنا لست في اليونان التي أعدت تركيبها في المخيّلة من خلال النّصوص، ومن خلال أسطورة المعجزة الإغريقيّة التي تشبّعت بها مبكرا… وسألت أحد المارّة عن مكان الأكروبوليس من المدينة، وإذا به يضعني في الطريق الصحيح، وأدخل شارع استاذيو الذي يمضي بي رأسا إلى ساحة البرلمان ثم أجدني في بلاكا.

وبعد سؤال وصلت إلى شارع أذوس بيتا الضيّق بنباتاته المعترشة على بعض الدّور، وبظلاله الأنثويّة النّاعمة حيث وجدت فندق فيفوس. كان عامل الفندق رجلا ربعة على سمرة متوسّطيّة، بطقمه الأزرق وقميصه الأبيض وربطة العنق، وشعره الممّوج المصفوف إلى الخلف شبيه بخواجات أفلام الخمسينات المصريّة… بادرته بالتحيّة، وبعد أن وضعت حقيبتي على الأرض واسترجعت أنفاسي قلت: هذا فندق فيفوس إذن؟ لقد دلني عليه وأنا في تونس صديقي لوران غسبار أحد زبائنكم. قلتها بلغة فرنسية، فأنا أدري أن اليونان كانت تتكلم الفرنسية قبل جيل أو جيلين، قبل أن تغزوها اللّغة الانكليزية، فالفرنسية كانت لغة الدّبلوماسية وكانت تتكلّمها الطبقات الأرستقراطيّة في القرن التاسع عشر من باريس حتّى سان بطرسبرغ في روسيا القيصريّة مرورا بأثينا وإسطنبول إلى الإسكندريّة والقاهرة وتونس وفاس

وفورا كلّمني بالعربيّة

قال:

– أنت صديق لوران؟ جيّد ! عنده رسالة صار لها أشهر هنا، تركتها له جاكلين وراحت لكورفو، وما جاش أخدها.

قالها بلهجة مصري ابن بلد.

قلت له  آه… تتكلم مصري؟

أجاب:  أيوه… طويلة

دا أنا اسكندراني، من يونان الاسكندرية… كنت أعيش هناك

وأطال ياء الإسكندريّة ومطّطها كما يفعل صديقي السّكندري محمّد قناوي.

أنت إذن من الجالية اليونانية التي مضى عليها قرون في الإسكندرية

قال ايوه مصر أرض طيبة، أنا كمان أعتبر نفسي مصري. كذلك

قالها بلكنة أبناء البلد.

ثمّ أردف

الاسكندرية ابتوعنا مش الاسكندر الكبير هو اللي بناها وإلا لأ؟!!

وتداعى إلى ذهني عالم يونانييّ الإسكندريّة، بمعابدهم ونواديهم ومحفلهم الماسوني، المستشفى والمقبرة اليونانيّة، ولوكنداتهم، شارع ليبسوس وشارع النبي دانيال، عالم نيكوس نيكولائيدس، وقسطنطين كافافيس، العالم الذي رسمه فورستر في دليله ذاك الكتاب الرائع الذي يجمع بين التاريخ والدليل السياحي والعمل الأدبي، ولورانس داريل، لورانس القادم من الهند في اتجاه معاكس لفورستر. لورانس الذي كان يعمل بقلم المخابرات الانكليزية صوّر في رباعيّته العتيدة إسكندرية الحقبة الكولونيالية، إسكندرية الجاليات الأوروبية أحسن تصوير… وكذلك حالحياة السرية للمدينة بيد أن نظرة داريل ظلت كولونيالية بها شائبة عنصرية

هناك أيضا عاش جورج سيفرس، وهناك كانت طفولة جورج شحادة… وهناك عاش أوائل القرن العشرين أديب اسحاق المثقف السوري الذي كانت تربطه علاقة بفيكتور هيغو

أخذت منه رسالة لوران، صعدت إلى الغرفة وفتحت الباب فإذا أنا داخل غرفة من الأربعينات أو الخمسينات بأثاثها الفرنسيّ القديم، شيء يوحي بالآر ديكو الفراش الخشبي وغطاء الأبجورة البلّوريّ الذي تلفّه ورقة العنب البرونزيّة والكرسي وطاولة الزينة بمرآتها التي تحيطها نقوش مزهرة وقاعة الحمّام مثلثة الشكل أرضيتها قطعة واحدة من الموزاييك الوردي… ما أزال أذكر التفاصيل فقد أعادتني إلى مدينة تونس قبل حقبة الترييف الشامل: المغسلة التي من البُورسلان الأبيض وحوض الاستحمام الحديدي المطلي بالمينا البيضاء بقوائمه الأسديّة… أثاث يتداخل في الذّاكرة مع أثاث فندق كلاريدج بتونس أيّام عزّه، وتهت وسط الغرفة، بقيت أتأمّلها هو نفس الديكور الذي عرفته في طفولتي، وها أنا كأنّي إذ دخلت الغرفة دخلت عصرا آخر الحقبة الكولونيالية في تونس. فيفوس يذكّرني بفندق تونيزيا بلاص بحديقته الخلفيّة المكتظّة بالياسمين والجهنّميّة البنفسجية والحمراء، وشجرة السّرو العملاقة التي تكتظ في الربيع بالخطاف والعصافير التي تسمع زقزقتها في صالون الاستقبال والشمس التي تنير جانبا من القاعة والبار هناك كان ينزل كلّ شتاء الرسام علي بن سالم مع زوجته السويدية الشقراء الفارعة الطول هاربا من شتاء ستوكهولم المظلم يقيم معرضه في قاعة الأخبار المحاذية للكنيسة ولا يذهب إلى بيته في سيدي بوسعيد. ياخذ غرفة في فندق لقربه من قاعة العرض

و نتحلق حوله كل مساء في بهو الفندق بعد غلق القاعة شلته المقربة حسن السوفي وحميدة بن عمار

فيفوس يذكرني بفندق مينرفا قريبا من شارع 26 يوليو، شارع الملك فؤاد سابقا بالقاهرة، وبتلك الغرفة الأخرى التي استأجرتها ذات يوم في واشنطن دي سي بأثاثها الذي يعود للقرن التاسع عشر… أجل، يقال ليس لغرف الفنادق روح، بيد أنّ غياب هذا الرّوح نفسه يمنحها قوّة المجهول وذاك الإحساس الشاعري بأنّك في اللاّمكان حيث تكتسب قوّة وسعادة الإنسان المتحرّر من محيطه.

كان أوّل شيء فعلته أن غادرت الغرفة وخرجت إلى الشارع استكشف المكان إنّه حيّ بلاكا في ضوء شمس الضحى الشتائية، بلاكا بفلله ومقاهيه الشرقية : أقفاص العصافير المتدلية من سقف المقهى مع لمبات الكهرباء الملوّنة، صور القديسين أيقونات على الزجاج مرسومة بأسلوب شعبي وصور أبطال كرة القدم على الجدران، ولاعبي النرد الشيوخ معتمرين البيرية اليونانية برييه البحارة الزّرقاء الداكنة تلك البيريه المنتشرة في المتوسط حتى الإسكندرية، هي بيريه توفيق الحكيم.

شيوخ يونانيون بسحنهم القمحية ووجوههم المجعدة المتعبة متجمعون حول طاولاتهم البنيّة المربعة كما في لوحات سيزان وكوربييه؛ مرسلين نظرات وقهقهات ذاك الانسان الذي تقدم به العمر وخلد إلى العالم ولم يعد مبال بما تقدّمه له الأيام؛ نفس المشهد وديكور المقاهي الشعبية الكولونيالية تلقاها في تونس والقاهرة ودمشق والإسكندرية: النرجيلة والقهوة البن بالجزوة التي يسمونها هنا غريش كافي وهي في حقيقتها القهوة العربية، والعصفور الذي يصدح في قفصه المعلق بباب المقهى والأسماك البرتقالية الذهبية الراقصة في ذاك الحوض البلوري الموضوع قرب مكتب صاحب القهوة، وصيحات الشيوخ وهم يضربون بحجر النرد على الطاولات. بلحظة رأيت مقهى الحجاز في دمشق… 

في بلاكا أيضا  صعدت ذاك الدّرب الصغير الذي يصعد إلى الأكروبوليس، وأصص الزهور الملوّنة فوق أسوار تلك البيوت الواطئة في سفح الأكروبوليس وهي عبارة عن علب تنك مصبوغة بالأزرق الفاتح والأصفر والأحمر مفعمة بحمرة الجيرانيوم وبالأقحوان الأبيض والأصفر ذكرتني بأعمال رسامي مدرسة تونس في الثلاثينات والأربعينيات لوحات يحي التركي وعلي بن سالم وبيير بوشارل وعمار فرحات: طبيعة صامتة… مشاهد قوارب الصيادين الصغيرة الملونة متكئة على جنوبها فوق رمال الشاطئ الصفراء ميناء حلق الوادي القديم، بيوت نوافذ مفتوحة على خليج تونس يتراءى من خلالها جبل بوقرنين غارقا في الضباب… زهور الجيرانيوم الحمراء في الشبابيك واشجار البوغنفيلييه تظلّل الفيراندات ماذا هل هي اليونان أم أنّي ضعت في متاهة ذاكرتي المرئية بين عوالم اللوحات الفنية وعوالم الواقع… لا أدري هل أنا أرى العالم من خلال الفن أم الفنّ من خلال العالم هل هي زهور سيزان أم هي زهور قرطاجنّة… وأنا أنزل منحدر الأكروبوليس إلى بلاكا… وأصغي من بعيد إلى صندوق الموسيقى في الساحة الصغيرة

أكتب هذه الذكريات في غرفة مكتبة دير ساوورج وسط جبال البيمون على حدود إيطاليا أمام النافذة التي تطل على الوادي وفي قبالتي هامة الجبل الحجريّ الأسود تحت سماء المساء الزرقاء الغامقة وريح خريفيّة تعصف وتصفّر في شقوق ونوافذ الدير ويترجّع صداها في الأروقة الطويلة الموحشة بضوئها الخافت كما في أفلام قصص القرون الوسطى.  وأنا وحدي هنا فقد اخترت الإقامة في شهر فيفري حيث لا يرغب أي كان بالمجيء إلى برد هذه الجبال المتوحدة بين فرنسا وإيطاليا منعزلا في هذا الدّير الفرنشسكاني الذي تحول إلى إقامة للكتاب والرسامين والذي جئته بل هربت إليه قبل أسابيع لأختلي بنفسي، وهو حلم وأمنية قديمة أن أظفر بعزلة مثل هذه، عزلة مع نفسي لمواجهة الذّات ذات مرّة وفي مكان ما، بيد أنّه جهد نافل فليس المكان هو الذي يعيد صياغة الذّات، بل الذّات هي التي تؤسّس المكان بما لديها، فأنت وكما يقول خوان رامون خيمينيث لن تجد في عزلتك إلاّ ما حملت إليها. لذلك فما لا تستطيع الحصول عليه في مكانك فإنك لن تظفر به في مكان آخر…

 بعد لحظات ستختفي هذه الزرقة الغامقة وسيهبط الّليل على ساوورج وعلى الجبل وعلى الدّير وعلى درب التأمّل الذي يشقّ الحديقة. وستظهر خيالات الزّهور البيضاء وسط الظّلمة إنها أرواح الأطفال الميّتين… وستظهر تلك النجمة التي تلتمع كلّ مساء في بلور النافذة التي أمام الفراش وسأمضي إلى حجرتي، حجرة الراهب لأنام، وقبلها أمرّ بمكتب  إدارة الدير وسط الرواق الخالي ثمّ أقف طويلا أتأمّل عتمة الليل على الجبال المواجهة، حيث أتباطأ، أمكث طويلا مستكنها ظلمة العالم، صمت العالم والأشياء، أقول في نفسي إنها نفس المشاهد التي غذّت الروح الرومانسي، أفكر في عزلة ريلكة بقصر دوينو، أفكر بنوفاليس وأناشيده الليلية. هنا الليل الكثيف، هنا الظلمة التي تكاد تلمس… هنا استرجع بكثير من المرارة حياتي في تونس التي تمر أحداثها أمام عيني كما لو أني أتفرج على مسرحية سوداء أشاهدها بإحساس مزدوج من التماهي والانفصال، كما لو كنت أنا شخصا آخر…

***

 في أثينا التقيت مارتين التي قدمها لي نوبيل مدير الفرقة الاركستراليّة للمدينة… نوبيل الفرنسي الذي جاء إلى أثينا ليفتح مقهى باريسي هو قهوة الافري داي على شارع ستاذيو ونوبل هو الذي دلني على عنوان يا نيس ريتسوس كنت أذهب معه لحضور بروفات الفرقة في المسرح القريب من المعهد الفرنسي والمتحف الوطني، أو نذهب معا لحضور نشاطات المركز الثقافي الفرنسي وهناك تعرفت على جيرار بيرا مترجم يانيس ريتسوس الذي نقل مجموعة ريتسوس بيت الموتى… عندما ألقى محاضرته حول ريتسوس كانت كانت تقف هناك امرأ فارعة الطول بشعر غزير أهوج وعيون سوداء متسعة ورداء أسود يغطي كامل جسدها كما لو كانت إحدى نساء التراجيديا اليونانية. إنها زوجته اليونانية مرشدته إلى عالم الاغريق الجارح.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار