عن الشوارع.. الحياة بلا سقف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخرانى

كيف ومتى ظهر أول شارع للوجود؟ من أطلق عليه اسمه، أم أنه ظهر واسمه معه، ثم علّم أول إنسان تعرّف إليه أن البشر بإمكانهم أن يختاروا أسماء الشوارع، لكن، هل يختار البشر بالفعل أسماء الشوارع، أم أن كل شارع يُلهم الكائنات باسمه، حتى إنه يهمس لكل كائن باسم مختلف، ومن وقت لآخر يغيّر كل شارع اسمه على طريقته.

لولا الإنسان ما كانت شوارع، ولولا الشوارع ما عرف الإنسان أماكن وجوده، ولكانت حياته متاهة بلا شكل، يدور فيها طوال الوقت دون وصول أو ضياع.

فارق كبير بين الشارع والطريق، الشارع غاية، الطريق وسيلة، الشارع صديق، وتتوقع أن تجد فيه أصحابك وأحباءك، الطريق لا يعتبر صديقًا بالدرجة الأولى، ولا يُتوقع أن ترى فيه أصدقاء، وإذا صادف والتقيت أحدهم هناك، فإن كلاً منكما سيكون متعجلاً، متوترًا، ببساطة لأن الطريق لا يمكن المكوث فيه، الشارع يمكن المكوث فيه.

للطريق دومًا نهاية، وقد تأتى فجأة، الشوارع لا تنتهى، تُسلّم بعضها إلى بعض بلا نهاية، الطريق كائن وحيد، يؤدى مهمة واحدة وهى التوصيل بين نقطتين، إحداهما على الأقل مجهولة حتى وإن كانتا معلومتين، الشارع ليس وحيدًا أبدًا، يؤدى مهمات لا نهائية فى الحياة، الطريق دومًا طويل، جاد على طول الخط، ومُملّ فى عدة مراحل منه على الأقل، الشارع يمكنه أن يطول أو يقصر، وفى الحالتين يمكنه ألا ينتهى، مُسلٍ، يمكنك أن تكلمه، يكلمك، يفكر معك، يمنحك فرصة أن تفكر بمفردك، ويهيئ لك الجو لتفعل، يأتى بالناس من حولك إذا أردت، ويخفيهم إذا أردت، يهدأ أو يكون صاخبًا، الطريق لا يفعل، جامد، ليس ثريًا بما يكفى، الشارع ملىء بالمشاعر، شخصيته متعددة الجوانب، وقادر دومًا على أن يصنع المفاجأة.

فى الطريق لا بد وأن تكون منتبهًا وإلا ضِعت، فى الشارع لا يهم أن تكون منتبهًا، الأجمل ألا تكون منتبهًا، الشارع سيصحبك إلى المكان الذى تريده، هو يعرف عندما تريد أن تذهب إلى مكان ما، فيأخذك إليه، هو يعرف أيضًا عندما لا تريد الذهاب إلى أىّ مكان، فيظل يسلّمك برفق إلى أصدقائه وإخوته شارعًا بعد آخر دون نهاية، حتى تقرر فى لحظة ما شيئًا جديدًا، وعندها ليس عليك أن تفعل شيئًا آخر، وتترك الشارع ينفذ ما قررت بينما تعود أنت لمتعتك، سيفاجئك الشارع أيضًا بأن يقرر لك شيئًا ما فتحبه على الفور، سيقترح عليك المزيد من الاقتراحات عندما تحتاج ذلك، أو عندما يشعر أنك تحتاج ذلك دون أن تنتبه أنك تحتاجه.

الشوارع أكثر حميمية مع البشر، وتحمل الكثير من صفاتهم، لذا نسمى الشوارع بأسماءنا أحيانًا، ولا نفعل ذلك مع الطريق بنفس الدرجة، من الممكن أن يحصل الشارع على ألقاب أو تنويعات على اسمه، أو حتى على اسم جديد، ولكن يبقى اسمه الأول عالقًا فى ذاكرة من يتعاملون معه، كما أن الشوارع تسمى بعضها بعضًا بأسماء لا تعرفها الكائنات الأخرى، الطريق هو مسافة نقطعها دون أن نعرفها بشكل جيد حتى لو كنا نعرفها، الشارع ليس مسافة، ولا نقطعه، كما أننا نعرفه بشكل جيد حتى لو لم نكن نعرفه، هل تبدو تلك قسوة على الطريق؟ ليست كذلك، إنما هى طبيعته، كما أنها ليست طبيعة شريرة، فقط، ولسوء حظه هو فى مواجهة مع الشارع، وعندما تنتهى تلك المواجهة سيظهر جماله، بالطبع الطريق ليس شريرًا، فقط هو مختلف.

الشارع كائن يقضى حياته كلها بلا سقف، بلا رغبة فى سقف، ولا سقف للأحلام والأفكار، هو أكثر من يرى الدنيا، حتى الشمس والقمر فى أفضل حالاتهما لا يريان نصف ما يراه، فأحيانًا تخفيهما الغيوم، يحجبهما كسوف أو خسوف، يمنعهما المطر أو الغبار أو المبانى الشاهقة عن الرؤية بشكل جيد، إنما الشارع حاضر دومًا، طوال الوقت يسمع الحكايات، يراها، ويشارك فيها، يشم الكائنات، يعرف رائحتهم، دمهم، وعرقهم، هم أيضًا يعرفونه، يمكنك أن تخرج من بيتك وتنظر للسماء ولا تجد الشمس أو القمر، فلا يخيفك الأمر، يمكنك أن تتعامل مع هذا حتى يعاودا الظهور، لكنك لن تستطيع التعامل مع اختفاء الشارع، لن تفكر بنفس الطريقة التى فكرت بها مع اختفاء الشمس أو القمر.

أفكر فى أن الشوارع تلملم بعضها بعضًا وتسهر على مقاهٍ خاصة بها، أصدق ذلك بطريقة ما، وعندما تفعل ذلك، فإنها فى الوقت نفسه تكون موجودة بأماكنها، أو أنها تفعل شيئًا سريًا تستطيع به الذهاب إلى مقاهيها والبقاء فى أماكنها معًا.

الشارع ليس مخيفًا بذاته، ربما يكون هناك مكان مخيف لأكثر مما يحتمل أىّ كائن، عندها يتبرع أحد الشوارع ليكون موجودًا فى ذلك المكان، حتى لو أُلصقت به تهمة التخويف بدلاً من المكان نفسه، الشارع بوجوده هناك يجعل الرعب مثل وهم أو ظل، يمكن للكائنات التغلب عليه ببعض أفكار وحيل بسيطة أحيانًا، بذلك، فإن الشارع يحوّل المكان المرعب إلى مكان للعب.

فى أماكن أخرى هى بالأساس مملّة، ستلعب الشوارع لعبة الرعب، فتجعل تلك الأماكن المملة، والمهمَلة بسبب هذا كونها مملة، إلى أماكن مرعبة بطريقة خاصة تختلف عن الرعب المعتاد، فتحصل بذلك على اهتمام الكائنات، فى هذه الحالة يحدث أن يوصف المكان بأنه مرعب وليس الشارع، بذلك، فإن الشارع يبعث الحياة فى المكان الممل، ويُبقيه فى ذاكرة وإحساس الكائنات، ويجعلهم مهتمين بالتعامل معه، والتجريب مع رعبه الخاص.

عندما تعتقد أنك تكره شارعًا ما، أو تحمل له مشاعر سيئة، فأنت لا تكرهه بالفعل، قوية هذه الكلمة “أكره هذا الشارع”، عندما تقول ذلك لنفسك، فإنك فى الحقيقة لا تحب شيئًا رأيته أو حدث لك هناك، حتى وإن بدا لك أن لا شىء محدد جعلك تشعر بذلك، أو أن ذلك الشارع ذكّرك بشىء أو إحساس جربته فى مكان آخر، حتى لو لم تدرك ذلك الشىء أو الإحساس بوضوح، إلا أن الشارع الذى تحمل له تلك المشاعر السيئة، سينتظر دومًا أن تمنحه فرصة حقيقية ليُظهر لك حقيقته، أنه يستحق الحب، لذا، سيظهر لك فى مرات كثيرة كنت تحاول فيها أن تتجاهله أو تتجاوزه، وإلا فلماذا تضبط نفسك متلبسًا بالالتفات إليه، أو التفكير فيه؟ هذا لأنه يفعل أشياء كثيرة ليلفت انتباهك وتفكيرك إليه، ويطلب فرصة حقيقية، يظل يتنقل من شارع إلى آخر، يهمس لك، وينظر إليك، حتى تلتفت إليه أخيرًا، وعندما تصر على عدم الذهاب إليه يتوقف عن مطاردتك حتى لا يضايقك، فقط يرسل إليك ظله ليطفو برفق فى خيالك ومشاعرك من وقت لآخر، ربما يعرف هذا الشارع أنك ستجربه يومًا ما، لكنه فقط يتعجل ذلك، وربما يشفق عليه وعليك أنت أيضًا أصحابه الشوارع، فيرغمونك بطريقة ما على المرور به، وعندها يكون هو مستعدًا، ويثبت لك أنه جدير بالحب، وعندها تفهم تلك الرغبة التى كانت تدفعك طوال الوقت لتذهب إليه وتجربه، وكنت تقاومها بعناد لا تفهمه.

عندما تصالح روحك على الشارع الذى كنت تحمل له مشاعر سيئة، فإن ذلك اليوم يظل أحد أجمل أيام حياة الشارع.

الشارع، المخلص، الرائع، الذى ينتظرك دومًا، ويعرفك فورًا حتى لو كان يراك للمرة الأولى، فقد رآك وعرفك بطريقته مرات كثيرة دون أن تعرف.

الشارع، هذا العبقرى، الذى رغم وجوده طوال الوقت إلا أنه يظهر بشكل جديد فى كل مرة، يمكنه أن يجدد روحه، وفى الوقت نفسه يحتفظ بتلك الروح المعروفة عنه، حتى إنه لا يعرف كيف يمكنه أن يكون مملاً، يعبر عن نفسه فى كل لقاء بشكل جديد، يُظهر لمسة جديدة، ربما رائحة أو لونًا أو منظر أو حالة ما، له أسراره وألعابه التى تجعله جديدًا وفاتنًا كل مرة، وكى يفعل ذلك لا بد وأنه عبقرى، حساس، وفنان.

مقالات من نفس القسم