الشتاء.. حيث تبدأ قصص الحب الحقيقية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مَنْ قال إن السماء تكون فى أجمل حالاتها عندما تكون صافية؟! لا سماء أجمل من الملأى بالغيوم، الرمادية، داكنة الزرقة، الحُبلى بالأوهام، الخيالات، والاحتمالات.

الشتاء، الحبيب، المُلهِم، المُلهَم، صاحب القلب البارد، المتوهج، المُفعم بالحب والدفء والحكايات، لا يمكنك أن تنسى قصة حب تبدأ فى الشتاء، يمكن تخيّله رجلاً بمعطف من سحاب، يمشى طافيًا، ولا يخضع للجاذبية الأرضية، هو أيضًا رجل عارٍ، شبه مخبول، يمشى فى شوارع مائية، يضرب المياه بقدميه فى كل اتجاهات، ويغنّى أغنيات بلُغة تخصّه، هو رجل من ثلج هشّ، يمكنك أن تغوص فيه، رحّالة، مسافر عابر للمكان، أراه موسيقياً متجولا، عبقرياً، يعزف كل الألحان فى الوقت نفسه، لتصنع لحنًا خاصًا، يُعلّق فى جسده كل الآلات الموسيقية، ويعزف عليها جميعًا فى وقت واحد ليعبّر عن روحه، وأحلامه، ويبتكر أوهام العالم وأحلامه.

الشتاء، يصل داخل القلب إلى أماكن لا يصل إليها غيره، يُثبّت الأشياء على الأرض ويجعلها أكثر حضورًا، وفى الوقت نفسه يموّهها، ويجعلها نصف حقيقية أو أقل، معه يصير اليوم أطول من أربع وعشرين ساعة، وتكون هناك فرصة للقبض على الوقت، يُخرج من الكائنات جمالاً لا تعرفه عن نفسها، وتكتشف أن لها أكثر من روح، أو أن لروحها الواحدة تجليّات بلا نهاية، فى الشتاء تطفو الروح ويمكن لمسها ورؤيتها بوضوح، والجلوس معها، يحصل كل كائن على الفرصة ليعبّر عن روحه، ويحصل على منطقة خاصة من العالم، تنشغل الكائنات بنفسها عن بعضها بعضًا، فيعيش كلٌ منها داخل حالة تخصه، الغريب فى الوقت نفسه أنه يجمعها معًا، تخيّل مجموعة من الحيوانات الصغيرة تتدفأ معًا بأن تحضن بعضها بعضًا، مجموعة من المتشردين ينضمون معًا، تخيّل نفسك صغيرًا مع إخوتك فى سرير واحد، وبخار مشروب ساخن يتمايل فى الحجرة.

معه، يصير العالم خطِرًا، آمنًا، الحياة على قيد الحياة، الشوارع مشاوير للمتعة، تفيض منابع اللذة، يمكنك أن تحصل على اللذة فى أبسط الأشياء، تصادفها أكثر من مرة فى اليوم الواحد، الليلة الواحدة، يدخل الشتاء إلى عظام الروح، يكسرها ويعيد تركيبها مئات المرات، يندفع فى زوايا الجسد فيصفّر هناك ويغنّى، يجعل إيقاع الحياة أكثر عمقًا، تشعر بدبيب كل شىء، وفى الوقت نفسه يُطيّر الحياة فى سماء الوهم.

لا أجمل من مكان فيه بحر ومطر وشتاء، ولمطر الشتاء إيقاع مختلف، شكل مختلف، وطعم مختلف، هو مطر حقيقى، به تلك اللسعة الباردة، السقعة اللذيذة، التى لا تجدها فى أمطار أىّ فصل أو وقت آخر، حتى ملمس الهواء، رائحته، تكسّرات النور وانعكاساته، تصير أكثر بطئًا وكثافة وعمقًا، الموسيقا تصير أكثر برودة، أكثر دفئًا، ويمكنك أن تمسك بها، معه يحصل كل شىء على بُعد جديد، الشتاء كائن لا يمكن تجاهله، يمنحك فرصة للتمهل، لتتأمل، وتعيد النظر والتفكير.

يمكننى أن أمشى لسنوات فى شتاء مستمر، مطر مستمر، الشتاء يُسلّم لك العالم كله، يُشعرك بالخصوصية، الاكتفاء، الاستغناء، والرضا، لست فى حاجة إلى شىء، العالم بسيط، لديك كل شىء، ما لديك يكفيك، ما لديك كثير جدًا، يغسل لك العالم، فتفرّق بسهولة بين الأشياء الزائفة والحقيقية، وكأن شيئًا تغيّر فى مشاعرك، وإدراكك، تكتشف فجأة، إن لم تكن تدرك ذلك من البداية، أن بإمكانك الاستغناء عن أشياء كثيييييرة. 

الشتاء كائن شتوى، لا يمكنه أن يكون شيئًا آخر، ولا يحب أن يكون، بينما يمكن للصيف أو الربيع أو الخريف أن يكونوا كائنات شتوية لبعض الوقت، هو كائن مُغوى بالحياة فيه واكتشافه، هادئ، صاخب، ملون، دافئ، ساقع، مندفع، متأنى، ورغم أنه الأقوى حضورًا، فإنه أكثر مَن يعطى انطباعًا بأنه على سفر، ومغادرة، وأنه كائن وحيد، تعجبه وحدته، يستمتع بكونه يقضى معظم وقته مع نفسه.

لولا الشتاء تجفّ روح الطبيعة، ويذبل جسد العالم، فتتحوّل تلك الروح إلى ذبول، ويتحلل ذلك الجسد إلى غبار، فى الشتاء تهيج الطبيعة، تبلغ ذروة نشوتها، ثم تشهق كأنما أفرغت شهوتها، ترتاح قليلاً، وبسرعة تعيد دورة هيجانها الجميل، هى تضطرب له وتفرح به كفتاة تصادف حبيبها دون توقّع منها، يمكن للطبيعة أن تكون جميلة فى أىّ وقت، لكن لا يمكنها أن تكون مكتملة إلا مع الشتاء، لا تضحك تلك الضحكة وترقص تلك الرقصة إلا معه، لا أحد يمكنه أن يُسعدها مثلما يفعل.

فى الشتاء تختفى الثرثرة من العالم، التفاهة، وكل ما ليس له أهمية، كأنه ينزع عن العالم تفاهاته، ويعيده جديدًا، حقيقيًا، لكن ليس ثقيلاً، خياليًا وليس خرافيًا، يحصل كل كائن على خصوصيته وإيقاعه الخاص، يمكنك أن تسمع إيقاعك الشخصى داخل روح العالم، تشعر بحضورك القوى، وقدرتك فى الوقت نفسه أن تكون خياليًا وهميًا، معه يمكنك أن تشعر بلذة الدفء، لذة البرد، تكشف وجهك وصدرك لهوائه المُحمّل بروحه اليقظة، تُلقى بقلبك فى شوارعه المبللة بالخيالات، تُطلق روحك فى عوالمه، مع الشتاء تشعر أن العالم صار بحجمك أنت، بما يكفى رغباتك البسيطة واستغناءك، تشعر أن العالم قد اتّسع وصار كبيرًا بما يكفى جموحك وروحك المُحلّقة.  

الشتاء، يمنحك الفرصة لتعيش هذا التوحد الجميل، والتواصل الخاص مع العالم، ومع نفسك، أنت وحدك، لكنك لست وحيدًا،، تشعر أنك أنيس روحك، أن روح العالم تصاحبك، أنك والعالم روح واحدة، تكتشف أخيرًا هذه الحقيقة، تصير واضحة لك، وبديهية جدًا: أنت العالم، والعالم أنت. 

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار