عن الذي يُربّي حَجَراً في بيته: سَرْدٌ مَغْناطيسيٌّ..وسَاردٌ مُحنَّكٌ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

في روايته (عن الذي يُربّي حَجَراً في بيته)..الصادرة حديثاً عن دار(الكتب خان للنشر والتوزيع)..وفيما يقرب من مائة وعشرين صفحة يروي الطاهر شرقاوي جانباً من السيرة الذاتية لشخص يعشق اقتناء الحجارة بكل أشكالها وأحجامها وكذلك ألوانها:(أنا مغرم بالأحجار الصغيرة..في أدراج دولابي يوجد الكثير منها..بأشكال وأحجام مختلفة..كما أن هناك العديد من العلب البلاستيكية الشفافة..ممتلئة بأحجار اقتنيتها على مدى السنوات الفائتة..وجمعتها من أماكن مختلفة).

إضافة إلى هذا يمارس هذا الشخص فعل القراءة مع عمله في كتابة القصص المصورة في مجلات الأطفال..هو لا يعمل في مكان محدد..ربما من البيت ويتواصل مع مجلات الأطفال عن طريق الذهاب إلى مكاتبها أو المراسلة عبر البريد الإلكتروني..يعمل أحياناً في وِرش لكتابة الـ (سيت كوم) وأحياناً يقوم بكتابة عروض لبعض الكتب أو دراسات في السياسة والتاريخ الاجتماعي.لكنه ينتظر تعلم مهنة جديدة كالنجارة مثلاً أو قيادة المترو أو ربما فكر في أن يكون قاتلاً مأجوراً والتي يراها مهنة مناسبة له لما يكتنفها من غموض وإثارة:(مهنة حسنة تستحق التفكير)..إنها مهنة تمتلك أخلاقياتها الخاصة بها كالشجاعة واحترام الكلمة وعدم الخيانة..ويعد كسر إحدى قواعدها انتهاكاً صارخاً يثير الاستهجان والامتعاض..غير أنه يريد تغيير اسمها (لما أصابه من ابتذال ) إلى المتربص مثلاً أو الكامن..أسماء جديدة لا تحمل أوزار الاسم القديم وتحمل معنى شاعرياً..إنه يقف على حافة الانتظار:أنتظر شيئاً ما يحدث في حياتي.باختصار يكتب سيرة حياة إنسان عادي جداً يسكن شقة بلا شرفة تقع في الطابق الأرضي يطلق عليها مقبرتي هي عالمي.

تقنية الحذف

في روايته هذه يبدو الطاهر شرقاوي (بعد عدد من المجموعات القصصية وروايته فانيليا) سارداً محنكاً..يمارس فعل السرد وكأنه يصنع قطعة من الأرابيسك الجميلة..يصيغ الطاهر شرقاوي جُمله وعباراته مُغلِّفاً إياها بأسلوب أخّاذ لا يشعر القاريء معه بأدنى ملل بل يضفي عليه نوعاً من المتعة والإمتاع اللذين لا يتوفران في كثير من الأعمال الإبداعية المعاصرة.لقد آثر الطاهر شرقاوي أن يكتب الجملة التي تمتاز بالتكثيف التي لا هي بالقصيرة المبتورة ولا هي بالطويلة الممطوطة المملة (أي أنه كثيراً ما يعمل على تقنية الحذف لا الإضافة).. إنها جملة تتجاور أجزاؤها في انسيابية وسلاسة سرديتين فائقتين.وهنا يتكيء الطاهر شرقاوي على السرد الحواري / السرد الذي يشتمل على حوار الشخصيات أو الحوار الداخلي / المونولوج.ويمكن لي أن أصف سرد الطاهر شرقاوي بالسرد المغناطيسي وأعني أنه يجذب القاريء ويُمْسك به بداية من الجملة الأولى في الرواية حتى نقطة الخاتمة.إنه سرد ذاتي إفضائي يقترب من اللغة الشعرية (يستخدم لغة فصيحة ولا يلجأ إلى المفردات العامية إلا قليلاً)..سرد نوعي يسمح له أن يكون في منطقة لا ينازعه فيها الكثيرون من مجايليه:(تصاعدت دقات قلبي أكثر..طبل صغير يسكن بين ضلوعي..نظرت إلى شاشة الكمبيوتر..تعرفت على بعض الكلمات العشوائية في المستند المفتوح ..دق قلبي على غير العادة..ضغطت على زر الإجابة..جاء الصوت ناعماً وجميلاً…).وهكذا يتداعى السرد متنقلاً ما بين الأسلوب التقريري الحكائي والأسلوب الاستفهامي جادلاً فيما بينهما في سلاسة واضحة..ولا شك أن تداخل هذه الأساليب وحوارها يشكل لغة روائية تتوازى مع تقابلات البنية الدلالية كما يقول د.محمد السيد إسماعيل في كتابه غواية السرد.وهنا أكرر ما قاله السيد إسماعيل إننا لم نعد في حاجة إلى التأكيد على أن الرواية عموماً هي (مجتمع أساليب) ومن خلال (حوار) هذه (الأساليب) بل وتناقضاتها بالضرورة يتكون ما يسمى بـ (أسلوبية) الرواية أو بناؤها العام.هذا ومما يلاحظ على كتابات الطاهر شرقاوي أنه ينحاز إلى الطبقات الدنيا أو قل الأدنى (إنها التيمة الأبرز في كتاباته)..يحاول أن يسلط عدسته الروائية أو القصصية علي أهل هذه الطبقات ببقع ضوء ربما تساعد في أن يراهم الآخرون ويَحنُّنهم عليهم مقدمين لهم يد العون لانتشالهم مما هم فيه.أي غالباَ ما تدور أحداث قصصه أو رواياته في أماكن البسطاء الذين يعتبر نفسه واحداً منهم نَبَتَ من بينهم وتعايش معهم وعايش ظروفهم الحياتية بكل تجلياتها السعيدة والبئيسة..إنه يختار بطله الرئيس من بينهم وينتقي له كذلك أبطال آخرين مساعدين من نفس طينته..إنه ينقب ويفتش في هذا العالم الثري المليء بالحيوات المتنوعة والتي ربما لا يدري كثيرون عنها أي شيء.                                                                                   

مصاصو الدماء

تتكون الرواية من ستة عشر مقطعاً / مشهداً روائياً متصلة منفصلة يمثل كل منها جزءاً من المشهد العام للرواية في الوقت الذي يمثل كل منها مشهداً تاماً مستقلاً بذاته وبتفاصيله عن بقية مشاهد الرواية الأخرى.البطل المحوري في الرواية هو الراوي (وربما جاز لي أن أقول هو الروائي) وبعده يأتي عدد من الأبطال الثانويين:الأحجار التي هو مشغوف باقتنائها..سيرين التي صالحته الأحلام بسببها..مصاصو الدماء الذين يلتقيهم الراوي أو هكذا يتخيل..مصاصو دماء جُدد يمتلكون الآن وسائل أخرى لا تخطر على البال لكنها سريعة وفعالة في أداء مهمتها..مصاصو الدماء هؤلاء هم ـ ربما ـ رمز لكل من يستلب حق الآخرين أياً ما كان وأياً من كانوا..وأرواح إخوته أو أقاربه التي تزوروه من وقت لآخر بغية العبث الجميل بمحتويات شقته أو لاستعارة الأعمال الشعرية وأولها أعمال أمل دنقل.هذا غضافة إلى أبطال آخرين يرمز إلى كل منهم بالحرف (س):لو دققت في الموضوع أكثر فإنني سأكتشف أن العديد من ممارساتي اليومية في الحياة هي في حقيقة الأمر ممارسات أشخاص آخرين مروا في حياتي.يظهر الراوي / البطل ومحبوبته سيرين التي لا ينسى أي شيء يخصها..في المشهد الافتتاحي وكذلك في آخر مشاهد الرواية فيما يمر طيفهما في بعض المشاهد الأخرى.فيما تتراوح أحداث الرواية فيما بين الحلم والواقع.في كثير من الأحيان يبدو البطل مرتبكاً:(العديد من الأمور تطفو على السطح مرة واحدة..بلا ترتيب أو نظام..وأقضي الوقت في محاولة للقبض على شيء محدد وذي معنى..فأتخبط ثانية في الحيرة والارتباك).فيما يبدو حالماً في أوقات أخرى:(الحلم الذي زارتني فيه كان ملوناً..يمتليء بالألوان..عالم مخلوق كله من الألوان ..وبدرجاتها المختلفة…لا أحلم مثل بقية الناس…).البطل هنا ليس بطلاً فانتازياً ولا أسطورياً ولا هو خياعلمي..إنما هو بطل واقعي يسهل العثور عليه فيما بيننا بيُسْر.ولمَ يلجأ إلى الفانتازيا أو الأسطورة وقد أصبح الواقع أكثر ثراءً منهما؟

الواقع والحلم

هنا يتراءى البطل مأزوماً ومتأرجحاً بين ما هو كائن / الواقع الفعلي وبين تمنيه لما سوف يكون / الحلم..غير أن تصالحه مع نفسه بعض الشيء هو ما سمح له بالتعايش السلمي مع مفردات الحياة الآنية رغم ضجره أحياناً منها.إنه غير راضٍ عن بعض مفردات حياته التي يحياها ويتطلع إلى حياة أخرى مختلفة تشعره بوجوده وبقيمته في الحياة..وتنفي فكرة وجوده المجاني فيها:بعد آلاف السنين سيعثر بعض المنقبين المتحمسين على موميائي الناشفة ومقبرتي..وقتها ستنتابهم الحيرة في جمع المعلومات عني وفي تخمين وظيفتي ومكانتي الاجتماعية..الارتباك هو ما سيميز تقاريرهم وبحوثهم العلمية..لسبب بسيط..أنني لن أترك خلفي دليلاً واحداً..لن أترك اسماً أو معلومة.. فقط مومياء تعاني من الوحدة وزلطاً محفوظاً في الأدراج وعلباً شفافة وحجراً بلون الشيكولاتة وقططاً تسكن الحوائط.

وبعد..هذه إطلالة خاطفة حاولت فيها أن أسلط بقعة ضوء صغيرة على هذه الرواية ربما لألفت نظر نقاد آخرين وأفتح شهيتهم تجاهها ليجلسوا إليها ويُخْرجوا جمالياتها بنيةً وسرداً وعالماً روائياً يحتاج إلى العيش فيه وقتاً أطول للخروج منه بما فيه من أساليب وتقنيات كتابية ثرية نوعاً وعدداً ودلالات تحتمل أكثر من تأويل.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم