تقول الأسطورة، أن الذئب أقوى مخلوق على الأرض، لكنه لا يعرف ذلك، إلا أنه يتصرف أحيانًا وكأنه يعرف، كأنه أشجع كائنات العالم، أحيانًا أخرى يتصرف كأنه الأضعف، والأقل شجاعة، وهذا يناسب الإنسان أيضًا، الإنسان الذى ما زال وسيظل حائرًا بين كونه أقوى الكائنات وأضعفها، يثق بأنه قادر على إخضاع كل الكائنات، وفى نفس الوقت يثق بأنه الأضعف وأن ملايين الأشياء، ومعظهما بسيط جدًا يمكنها أن تخضعه، هو كائن يقدر على كل شىء، وكل شىء يقدر عليه.
المشترك الأساسى بين الذئب والإنسان لا يكاد يُرى، أو يُدرك، أو يوصف، فقط، يمكن الإحساس به، مثلما تشعر بأن إنسان ما يقترب منك دون أن تراه أو تسمعه أو حتى تشم رائحته، أو أن من يقف هناك فوق التلة ويرقبك هو ذئب وليس كلب أو ثعلب، رغم أنك من مكانك البعيد لا ترى أية علامة تحسم الشبه بينهم، كما أن الكائن من مكانه على التلة، ليس حريصًا أن يُظهر لك علامة لتعرفه، فقط الإحساس، والإحساس هو أعلى درجات الفهم، وأعمق درجات الرؤية.
البعض من البشر سمعوا عواء الذئب، القليل منهم رأى الذئب، والأقل رآه وهو يفترس ضحية ما، وأقصد الرؤية المباشرة الطبيعية، رغم ذلك سيكون الذئب هو المتهم الأول فى كل ضحية يمكن مصادفتها داخل الغابات مثلاً، لماذا الذئب هو المرشح الأول دومًا؟
الذئب لا يعوى مرة واحدة ويصمت بعدها، هو يكرره دومًا، وعندما تسمع أول نداء فى عوائه، ستشعر بأن الهواء والوقت حولك قد توقفا للحظة، لحظة واحدة عميقة، أنت أيضًا ستتوقف بهذا العمق، والهواء والوقت حولك سيشعران بأنك قد فعلت، ستفكر عندها فى شىء لا تعرفه، وتشعر داخلك بإحساس لا تفهمه، ثم تكمل ما كنت تفعله أو تتحدث فيه، لكن شئ منك سيبقى عالقًا فى مكان ما ينتظر أن يكرر الذئب عواءه، وعندما يفعل، تفهم أحد مشاعر هذا العواء، وأنه ليس للتهديد أو التخويف، هو أقرب للألم، ربما ألم الوحدة، ألم اتهامه المستمر بالقتل، يبدو الذئب أثناء عواءه مثل شبح بعيد، ظِلٌ تسرى فيه روح، خيال بين الوهم والأسطورة، هناك، فى البعيد القريب يمد الذئب عنقه للسماء ويشكو ألمه، يمد حروف عواءه ويعلو به، ثم يخفت تدريجيًا، مثلما يصّاعد الألم ويخفت بتأنى، لكنه يبقى حيًا مستمرًا طوال الوقت.
عواء الذئب مثل طقس أو ممارسة فنية تخصه، ليس حركة عابرة يؤديها فى أىّ وقت بأية طريقة ولأىّ شىء، مثلما يزأر الأسد مثلاً لأجل ذبابة تضايقه، أو لأجل لا شىء، عندما يعوى الذئب فإنه لا يفعل شيئًا إلى جانب ذلك، إنما يتفرغ له، هو يعتنى بعواءه ويتعمده، ليس مجرد صوت ينفلت منه دون قصد، أو يُطلقه من وقت لآخر بسذاجة ليقول “أنا هنا”، الذئب يُطلق حالة خاصة، ومزاجًا متفردًا، صوته يأتى من مكان عميق، وأرض غامضة، تشعره يدنو منك، وقد قطع تلك المسافة الطويلة البعيدة لأجلك، هو صوت تسمعه داخلك، ويترك هناك شيئًا مرتعشًا ملونًا، ربما تحبه، ربما يُحيّرك، فتحتار لماذا أحببته، أو تحبه لأنه حرّك فيك تلك الحيرة الغامضة.
عواء الذئب أفضل من يعبّر عن شخصية الليل، هو يجسد الليل ويضيف إليه من شخصيته، كلٌ منهما يمنح الآخر بعض لونه ومشاعره، يحرك صوت الذئب داخل الإنسان ذلك الوتر الخاص، وكأنما هناك آلة موسيقية، ذات وتر وحيد، لا يحركه إلا هذا العواء، الذى لا يبعث على الخوف، إنما غموض إحساس الخوف، وبرفق يسكب ألمًا عميقًا على الأرض والمفردات، تسرى فى الهواء والماء وحدة شجية غامضة، تصنع حولها موجات رهيفة من شجن وغموض، يُطلق ذلك الإحساس الذى لا يمكن الإمساك به والتعرف عليه، ستنصت لهذا العواء، ويسحبك إليه بخفة أو يتسلل إليك، تفكر فيه بعمق كلما سمعته، وتنساه فور أن ينتهى، لكنه فى كل مرة سيترك داخلك تلك النقطة البنفسجية المموهة العميقة، هو عواء/صوت تشعر أن صاحبه بعيد عنك لهذا الحد، وفى نفس الوقت قريب لهذا الحد، تشعر أنه يتواصل معك أنت بشكل شخصى.
الذئب واحد من العشاق القدامى فى هذا العالم، تلائمه هذه الفكرة، تناسبه صورة العاشق القديم، تقول الأسطورة أن للذئب قدرة على التحول إلى إنسان، وللإنسان القدرة على التحول إلى ذئب، وتقول أسطورة أخرى مكمّلة أن كلاً من الذئب والإنسان لديه القدرة على أن يتحول إلى مصاص دماء، الذى بدوره يمكنه أن يتحول إلى أىّ منهما، وهناك، داخل تلك التحولات، يمكن للثلاثة أن يكونوا أصدقاء، أعداء، وحالات أخرى.
هؤلاء الثلاثة يعتبرون الدم من اهتماماتهم الأولية، كلٌ على طريقته، لكنها تجتمع فى النهاية على أنها طريقة للحياة، الثلاثة أيضًا يجتمعون فى علاقتهم الخاصة بالقمر المكتمل، فالذئب يكتمل صعوده باكتمال القمر، يكتملان معًا فى هذه الليالى الخاصة، يصعدان معًا، ويصلان لقمة نشوتهما وألمهما، يُدركان لحظتهما الساطعة، والغامضة فى الوقت نفسه، ومعًا يُطلقان حالة هى أسطورة تحوى داخلها وتبعثر حولها الكثير من الأساطير الأخرى، فى هذه الليالى يصعد الذئب إلى أقرب نقطة من القمر، ويقترب منه القمر قدر إمكانه، ينظر كلٌ منهما فى وجه الآخر عن أقرب قرب ممكن، يبدوان مثل صاحبين، وحشين، رُعبين، حُلمين، ولا يكون معروفًا إن كان كلٌ منهما يحادث صاحبه أم ينوى أن يلتهمه، كذلك علاقة الإنسان بهذا القمر المكتمل، تلك العلاقة المتأرجحة بين الخوف والأمان، الرومانسية والرعب، فرغم أن القمر ينشر كامل نوره وسطوعه فى ليالى اكتماله، إلا أنه فى نفس الوقت ينشر كامل رعبه وغموضه، تلك الليالى التى يشعر فيها الإنسان بشىء مختلف، يمكنه بسهولة أن يشعر بهذا الشىء المختلف، الغامض، والمتفرّد، كذلك مصاص الدماء وعلاقته بالقمر المكتمل، هو يحب هذا النور البارد الذى لا يجرحه، ذلك الوجه الدائرى الشفاف والمعتم معًا، يشعر وقتها بالأمان والإثارة، لكنه فى نفس الوقت يظل قلقًا من أن يطعنه هذا القمر المكتمل فى قلبه فجأة، أو يرسل إليه من يفعل ذلك، ثم علاقتهم الثلاثة باللون الأزرق، ذلك اللون الذى تتألق فيه حياة الذئب، وتكتمل أسطورتها وسحرها، الأزرق الذى ينتعش به قلب مصاص الدماء، ويُلوّن منامات الإنسان بدرجات وأعماق مختلفة، فضلاً عن أنه يسبح فى أجمل مساحات عالمه، أو أنها من تسبح فيه، وبذلك تصير الأجمل، يمكن تخيل الإنسان والذئب ومصاص الدماء وهم يمشون معًا، ويتحولون إلى بعضهم بعضًا أحيانًا، أو أن كائنًا واحدًا يحملهم الثلاثة بداخله.
يعيش الذئب أحيانًا على تخوم مدن البشر وقراهم وبيوتهم، يتمشى فى شوارعهم، يفعل ذلك رغم أنه ليس حيوانًا أليفًا ليفعل، أو ليكون ذلك مقبولاً ومتوقعًا منه، هو الوحيد بين الوحوش الذى يمكنه أن يعيش فى هذه المسافة، حتى إن الفكرة ليست مستغربة من البشر، ويبدو مقبولاً لهم أن يكون الذئب متاخمًا لهم، يدخل هذا ضمن توقعاتهم المختبئة خلف التوقعات العادية الأولية، فى نفس الوقت يستغرب البشر فكرة وجود أىّ وحش آخر فى نفس المسافة، لا يقبلون به ولا يدخل ضمن توقعاتهم، كما أنه لا يوجد وحش آخر يفكر فى ذلك، أيضًا يعيش مصاص الدماء معظم الوقت على تخوم مدن البشر وقراهم، وبيوتهم، ويتحرك بينهم، كلٌ من الإنسان والذئب ومصاص الدماء يعيش متاخمًا للآخر، يمتزج به أحيانًا، ومسموح أن يتسرب كلٌ منهم للآخر بشكل ما، أو عدة أشكال، كأنها حلقات تتداخل بهدوء، صخب، عنف، نعومة، غموض، وعمق.
ربما يكون الذئب تجسيد حىّ للغموض الذى بداخل الإنسان، كذلك يبدو الإنسان للذئب مثل غموض لا يخيفه، إنما يبقيه متسائلاً، لذا عندما يتصادفان ولو من مسافة بعيدة، فإنهما يتوقفان أو يتباطئان كأنهما ينتقلان فورًا للمشى داخل وهم، وإذا لم ينتبه أىّ منهما لصاحبه منذ البداية، فإنه سيشعر بنظراته على جسمه، ويلتفت إلى عينيه مباشرة، يتوقف الإنسان كلما رأى ذئبًا، ويظل يتأمله بشغف غامض، يشعر كأن الذئب فى بعد آخر، ويتمشى داخله فى الوقت نفسه، الذئب أيضًا يقع فى تلك الحيرة، فينظر للإنسان تلك النظرة التى لا تهدد بالقتل، وفى نفس الوقت لا تعد بصداقة، نظرة مموّهة كأنك تنظر فى أعماقك المربكة الغامضة، يمكن بسهولة ملاحظة تلك النظرة بين الذئب والإنسان، لا تعرف هل سيهاجم كلٌ منهما الآخر، أم سيصاحبه، أم سيتركه وينصرف، يبدوان لحظتها وكأن كلٌ منهما قد تسمّر بالأرض، وبداخله فضول أن يتعرف على الآخر، أو على الأقل يتمشى معه لبعض الوقت، فقط يمنعه إحساس يشبه ذلك الخوف الذى يمنع كلٌ منهما أحيانًا من النظر فى أعماقه.
لماذا عندما نصف شخصًا بالشراسة نستخدم غالبًا تشبيه النمر أو الأسد، هما الحيوانان الشائعان عند استخدام تشبيه القوة أو الشراسة، فقط نستخدم تشبيه الذئب فى حالات خاصة، تلك التى بها غموض ما، هى ليست القوة المعتادة مهما بلغت، ولا الشراسة التى تخطر للذهن فورًا، الذئب يمتلك القوة على طريقته، طريقة الذئب، ليست تلك الطريقة التى تشترك فيها جميع الوحوش الأخرى، رغم تفاوت تلك القوة من وحش لآخر، فلهم فى النهاية طريقة عامة واحدة، أيضًا يمتلك الذئب حالة أعلى من الشراسة الشائعة، أو أنه بطريقته وخصوصيته يرفع الشراسة إلى درجة أعلى، يُرقّيها إليه، أو أنها تصير أكثر رقيًا عندما يستعملها، وليس المقصود أنها تتحول إلى أن تكون لطيفة أو ناعمة، حتى إنها ربما تصير أكثر وحوشية، غير أن هذا أيضًا ليس المقصود، لكنه أسلوب ومزاج الذئب، طريقته وعالمه الذى يتفرد به، نستخدم تشبيه الذئب فى الحالات التى يلوّنها ذلك البنفسجى الغامض الذى يموّه الأشياء، حالات معقدة، أو غامضة، أو حاسمة لدرجة التعقيد والغموض، لا تشبه أحدًا ولا أحد يشبهها، الذئب حالة خاصة، عالم خاص، ومزاج متفرد.
خاص الكتابة