عن الحب والرحلة .. والأماكن!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
إلى ميوية.. صاحبة بيت المحبة:
“صباح ومسا” على قول فيروز. أنشر هذه الرسالة بصفة عاجلة قبل عودتك إلى كندا، لم أرسلها بعد بالبريد العادي كما أخبرتك عن عزمي على فعل ذلك فسامحيني. غدا عيد الأم في كندا وكولومبيا فكل سنة وإنتِ طيبة، كما سيحتفلون هنا بعيد المُعلِّم يوم 15 مايو، إذن هي معايدة مزدوجة. دفعتني صورك الأخيرة من ندوة الاحتفال والاحتفاء بك وصور ذكريات حفل توقيع مجموعتنا المشتركة “حتى فساتيني” (الذي كان في مثل هذه الأيام من العام الماضي) لإرفاق الرسالة بأكثر صورة أحبها لنا في بيت التلمساني في آخر أيام الورشة، ذكرتني بأغنية “ضحكة عيون حبيبي ضحكت ليها الليالي”، أتذكر الآن أيام الورشة المختلفة والحديث عن الملابس وعن الكتابة والسينما وعلم النفس والتفاعل بين أصواتنا الشخصية -كمشاريع كُتاب تبحث عن صوتها وأسئلتها الخاصة- معك ومع ضيوف الورشة، وحشني بيت التلمساني فشخ والبُعد عن صخب وسط البلد -حيث دار المرايا- والمدينة وضغطها النفسي. وحشني الفطير المشلتت الجميل والعسل والجبنة القديمة التي أعدها فلاحين المنطقة بناءا على توصيتك وضيافتك لنا، ممتنة لهذه المساحة الآمنة التي شاركتينا إياها معك يا ميوية. وحشني كمان بصراحة أهلي وصحابي وأفلام السينما والتدريس والطلبة وسلبطتهم بس اللقا نصيب ولكل اختيار ثمنه وتبعاته ومعاركه.
..
منذ أن قدمت إلى هنا في ميديين وكلما خرجت من المدينة إلى القرى المجاورة في أنتيوكيا وزرت بيتا جميلا يشارك أصحابه زوارهم المحبة تذكرت بيت صاحبة “الكل يقول أحبك”، على بالي حينما نشرت صورة لي مع الشاعرة الكولومبية إلسي ريوس في زيارتنا لبيتها أخبرتيني أنها ذكرتك بصورتنا هذه معا، أتذكرك في تلك الترويحات التي أقوم بها من حين لآخر بعيدا عن الكتب الدراسية والأبحاث والديدلاينز التي لا أتمنى أن تجري ورايا يوم القيامة.
منذ أسبوع ذهبت إلى ورشة عن “التعامل مع الألم” لأحاول فهم مشاعر الألم الجسدي والروحي الذي يتملكني من آن لآخر. فور وصولنا خلعنا الأحذية للتوحد مع الطبيعة الأم وأنضممنا لباقي الحضور عند مجرى مائي وسط الخضرة الممتدة محتلا بدوره شريط الصوت ومتآلفًا مع صوت صاحب البيت الذي أعطى كلا منا قطعة قطن وطلب منا استحضار نية لوجودنا ها هنا وأن نتمنى شيئا ما قبل أن نغرس قطعة القطن في الأرض الطينية، فعلت ذلك وأصطحبت في أمنيتي من تذكرتهم من الأقربين وأحب أن يعيشون السكينة كهذه اللحظة الرائقة وسط الطبيعة. آمل أن تطرح هذه البذرة يوما ما وينتفع بها عابر سبيل في أي مكان على وجه البسيطة، ربما تدثر بمعطف صُنع منها من البرد أو مسح بمنديل قطني من ثمارها عرق جبينه بعد عمل جميل قام به، أو في أي صورة ستستحيل هذه البذرة. حديثك معنا أثناء الورشة عن الساعة النمرية أو الTIGER HOUR والكتابة وتخصيص وقت محدد يوميا والاصطبار عليه في البحث والإنجاز كان أحد بذورك التي لازلت أرعاها قد استطاعتي إلى الآن.
..
في آخر تسجيل صوتي أرسلته لك حكيت فيه عن الثيرابيست التي ذهبت إليها لطلب المساعدة للتحكم في نوبات القلق والشعور بالعجز واللاجدوى والاحتراق الذهني وقت تسليم بحث هذا الفصل الدراسي في رمضان، يولاندا ست جميلة مثلك ومتعددة المواهب ولديها قطين أحدهما يشبه محظوظ، وكلاهما يقومان بحركات ودلع مثله أيضا، في سياق حديثنا عن الرسالة والعنف ضد الجندر عرجت في حديثها لتستنكر أني ليس لدي علاقة ها هنا وقالت فيما معناه: هنا مفيش بابا وماما ولا مجتمع خانق للحريات، أخبرتها أنني لم أطمئن بعد وأن علينا التركيز هنا والآن على الرسالة لا على تصوري عن العلاقات العاطفية وأفكاري الرومانسية التي استنكرتها أيضا، حينما حكيت لك مختصر ذلك الحوار ضحكتي وقلتي لي: “إزاي مفيش علاقات حب؟! هو سؤال سهل جدا والمسألة معقدة جدا عن مجرد السؤال ده. إزاي دي ليها ستين رد، إنما كل حاجة في وقتها لذيذة والحب -على رأي فيلسوف فرنساوي بحبه اسمه آلان باديو كان كتب كتاب صغير عن فلسفة الحب- مخاطرة ومغامرة، وزي ما رميتي نفسك في الغربة كده مسيرك ترمي نفسك في الحب برضو، وتجربي الدنيا ماشية إزاي بعد كده، بس يعني من غير استعجال كل حاجة في وقتها بتكون لطيفة وبشكل طبيعي وتلقائي والجو ده”. نزلت الكتاب من على منصة “أبجد” بعدها وقرأته وشاركت منه على حائطي مقتطف:
أعتقد أن الحب هو فعليا ما أسميه في قاموسي الفلسفي “إجراء الحقيقة”، بمعنى، الخبرة التي من خلالها يُشيد نوع معين من الحقيقة. هذه الحقيقة هي ببساطة شديدة حقيقة الاثنين. حقيقة الاختلاف. كما هي وأعتقد بأن الحب -الذي اسميه “مشهدا من اثنين”- هو هذه الخبرة بهذا المعنى، الحب الذي يقبل التحدي ويقبل الاستمرارية، ويقبل خبرة العالم هذه تماما، فإن من وجهة نظري الاختلاف يُنتج، على هذا النحو، حقيقة جديدة حول الاختلاف. لهذا فإن الحب الحقيقي محط اهتمام الإنسانية كلها دائما، بغض النظر عن تواضعه الظاهري، وعن تواريه. نعرف كيف ينجرف الناس بقصص الحب! لا بد أن يسأل الفيلسوف لماذا يحدث هذا؟ لماذا هناك العديد من الأفلام والروايات والأغاني التي تكرس تكريسا كاملا قصصها للحب؟ لا بد أن هناك شيئا ما كليا في الحب لكي تثير قصصه اهتمام هذا الجمهور الغفير. إن الكُلي هو أن الحب يقدم خبرة جديدة للحقيقة حول كيف تكون اثنين وليس واحدا. فأيا كان الحب فهو يعطينا دليلا جديدا على أننا نستطيع أن نقابل العالم ونختبره بوعي آخر غير الوعي المنعزل. ولهذا نحب الحب، يقول سان أوغسطين: نُحب أن نُحِب، لكننا نحب أيضا أن يحبنا الآخر. وذلك لأننا نحب الحقائق ببساطة. هذا ما يعطي الفلسفة معناها: الناس يحبون الحقيقة حتى عندما لا يدركون هذا“.
.
قد يكون هذا البحث عن حقيقة ما هو ما نسعى إليه بطرق شتى في حيواتنا؟ أو ربما نبحث عن أقرب نسخة لأروحنا، أو عن معنى ما، الأصالة والسلام النفسي والسكن؟ منذ شهر ذهبت إلى منتجع استشفائي وسط الجبل، اسماه صاحبه Sueño Realidad ويعني الحلم حقيقة وقصة هذا المكان أن صاحب فكرته “سيسار جوميس” ثيرابيست كان يعالج أحد عملاءه وشاركه حلمه عن رغبته في إنشاء منتجع علاجي وسط الطبيعة وبدوره تعهد جيمي وقتها على نفسه بأن يهديه قطعة أرض إن تثنى له امتلاك مكان هكذا وأوفى بعهده بعدما تحسن عرفانا بجميل صنيعه معه، فصارت الخِيَم أو كبائن الحلم حقيقة في “سان روكي” هنا في أنتيوكيا، الخيام المُعلقة هذه شُيدت بأقل الإمكانيات المنيمالية لنعود كالإنسان الأول للبحث عن الإجابات الأولى وترميم البيت الأول بذهن وفؤاد صافيين ربما. في بداية التعارف سألني سيسار إن كنت أحب أن يكون لدي مكان هكذا، فقلت له ليس لدي مال لذلك، فصحح إجابتي بأنه لا يسأل عن المال بل عن النية فأجبت بالتأكيد طبعا. وفي ورشة التنفس الواعي التي حضرتها هناك سألنا المحاضر عن أين نسكن؟، فأجاب كل منا بالمكان الذي يعيش فيه، حينها أجاب المُدَرب بقوله: أجسادنا هي سكننا الأول، نحمل فيها أثمن ما نملك حقيقة لذا فهي الأولى بالرعاية، أفكر معك الآن أنها أيضا سُكنى مَن وما نحب. على بالي أيضا قول ابن الفارض: ” واحرص على قلبي لإنك فيه”.
كنت قد كتبت ثرثرات أكثر ولكن لا محل لها الآن.
فقط أكرر امتناني للمحبة في قلبك وكل ما تزرعيه بيدك يا ميوية ورحلة سعيدة وكتابة وتدريس وحياة كريمة محاطة باللطف والمحبة أينما كنتِ.
سلامات ومحبات
أسماء
ميديين – كولومبيا
13/5/202

مقالات من نفس القسم