نهى محمود
يعتقد الناس أن الحرب ستنتهي لأسباب بسيطة، وتظن النساء اللاتي مررن بمعارك طاحنة أن الحياة ستبدأ من جديد لأسباب تافهة، وينبت الأمل والحب وتشرق الشمس بتلقائية عظيمة.
كما تقول إحدى بطلات رواية “جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا” في إحدى رسائلها إلى جوليت آشتون، روائية من لندن، قررت ان تكتب عن جزيرتهم الصغيرة التي عزلتها الحرب العالمية الثانية عن العالم: “ها هو الربيع على الأبواب، وأكاد أشعر بالدفء في ضوء الشمس هذا. في أسفل الشارع- لا أتجنب المنظر الآن – أرى رجلا بثياب مرقعة، يقوم بطلاء باب منزله بلون السماء، أرى صبيين كانا يلعبان في الشارع يرجوانه أن يسمح لهما بمساعدته، يعطي كلا منهما فرشاة صغيرة. لذلك، ربما ستنتهي هذه الحرب”.
لم أستطع أبدا تفهم دوافع البشر للقتال، أتعاطف مع أفلام الديستوبيا التي تقدم نهاية العالم بسبب حرب مع كائنات فضائية أو تصادم الكواكب والنيازك بكوكبنا الصغير، أتفهمها تماما وأحبها، لكني اشاهد أفلام الحرب مهما كانت ملحمية وعظيمة بإحساس
من الارتباك وعدم راحة كبيرة. أنفعل مع مقاومتنا للغزو الفضائي، وطبيعة البشر المتلفتة نحو النجاة مثل زهور عباد الشمس نحو النجم الكبير الساطع.
منذ أيام شاهدت مع صغيرتي فيلما يحاول فيه سوبرمان أن ينقذ الارض من غزاة كوكب كريبتون. كنا نتفرج قبل أن تفاجئني بتعليقها أن المشهد أمامها بعدما دمر الأشرار من الكوكب الفضائي ناطحات سحاب وسكك حديدية وعربات، دمار وأنقاض في كل مكان بينما يقف الرجل الخارق المنحاز للبشرية وحقها في فرصة للحياة أمام الأشرار، قالت لي إن هذا المشهد يشبه تماما ما تتناقله الأخبار في الحرب القاسية الجارية في جوارنا. قالتها هكذا: “شبه الحرب في غزة يا ماما”.
نظرت نحوها بجزع، وجاهدت حتى منحتها ابتسامة وإيماءة رأس. وفكرت أنه منذ بدأت تلك الحرب وأنا أفكر في نيكول كيدمان وهي تتنقل في مغامرة طويلة ومرهقة لتستعيد ابنها وتقاوم أن يستحوذ عليها الفضائيون، فكرت في مشاهد رحلة جون كيوزاك مع عائلته ليلحقوا بالسفن التي صنعها أغنياء العالم ليتمكنوا بالنجاة عند الطوفان في فيلم 2012، فكرت في براد بيت وهو يبحث عن مصدر فيروس حول البشر لزومبي ورحلته لإنقاذ عائلته والبشرية في فيلم “حرب الزومبي العالمية”، وجدت صعوبة في التماهي مع فكرتي الرغبة في الحياة، والميل لتدمير البشر والإنسانية.
كل معاركنا ضد الأمراض وجهود العلم لتوفير حياة أفضل وأسعد. تعاطفنا مع الحيوانات، في مدينتي التي أعيش فيها يحمل معظم الناس طعاما مخصوصا للقطط والكلاب، أواني للماء في كل مكان، الماء والحبوب للعصافير توضع على الشرفات، العصافير تعرف وحيوانات الشوارع الضعيفة تعرف..
البشر هم ذاتهم من يتشاجرون في أحياء أخرى قريبة حتى يقطعوا ملابس بعضهم لأسباب أقل من تافهة. النساء اللاتي يملأن الأسواق لشراء الخضروات الملونة، الخارقات في فعل ما يلزم للبيت والاعتناء بالأطفال، واحتواء رجال قادمين من صخب قاس لأجل لقمة العيش.
النساء اللاتي تحملن فوق ضهورهن عائلات، أجيال من العائلات بكل سعادة وقوة، هن أنفسهن من يملأن محاكم الأسرة بحثا عن الخلاص من بيوت طالما سندوا جدرانها بأرواحهم ودمائهم.
البنت التي ظنت أنها لا يمكن أن تهزم، تعطلت ونزف قلبها دما، لأن رجلا في منطقتها الآمنة توقف عن النظر لعينيها، راوغها وتجاهلها حتى تسرب الماء من عروقها تيبست وتحولت لتمثال من الأسمنت، أمر عليه كل يوم في طريقي أنظر نحوه حتى لا أنسى، لأتذكر دائما أن أنظر في عيون من أحب، أن ابادلهم طبطبة وابتسامة وحضنا إن تطلب الأمر، وأفكر في مفارقة رغبة البشر في السعادة، رغم مضيهم بحماس ناحية الخراب والتعاسة، أفكر في الحرب والموت كثيرا، وأخجل ألا افعل وسط رائحة الموت الهائمة والمطلة حولنا ، لكني أشعر بدفء الحب تطل نسمته من كل شئ حولنا أيضا..
لأتذكر فيلم “البحث عن صديق لنهاية العالم” وهو فيلمي المفضل عن النهاية، حيث يبقى أمام البشرية أسبوعا واحدا قبل أن تضرب الأرض كتلة كبيرة من النيازك، وتختار البطلة كيرا نايتلي أن تسافر لعائلتها لتموت معها ويساعدها في رحلتها البطل ستيف كاريل الذي هجرته حبيبته فور أن عرفت أن الحياة ستنتهي قريبا، كان ذلك الخبر الأبرز في نشرات الأخبار قبل انقطاع الاتصالات أن كثيرا من النساء والرجال انفصلوا، ربما فكروا جميعا أن الوقت غير كاف للمزيد من الزيف، في رحلة يحوطها الجزع وتفوح منها رائحة النهاية، أشرق الحب في قلبيهما، عرفوه كما لم يحدث طوال ما فات من العمر، ينتهي الفيلم وهما جالسين بالقرب من بعضهما في الفراش تحتضنها يده ويهمس كل منهما للآخر أنه كان سيكون جميلا أن يتقابلا قبل ذلك .
يغمضان عينوهما الممتلئة بالحب والموت وتضيء الشاشة بالانفجار وينتهي كل شيء.
